الحمد لله رب العالمين والصلاةُ
والسلام على خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
مّرت على الأمّة الإسلاميّة أيام
نسـي الناسُ فيها كثيراً من أمور دينهم وذلك بسبب إبتعادهم عن شريعة ربهّم
وانشغالهم بدنياهم عن دينهم فانتشـرت المنكرات والمحّرمات حتى أصبح المنكرُ
معروفاً والمعروف منكراً.
وأراد اللهُ أن ترجع الأمّةُ الى
دينها وكان ذلك في ظهور الصحوة الإسلامّية المباركة إن شاء الله تعالى فكان واجباً
على طلبة العلم أن يقوموا بتصحيح وتنقيه المجتمع المسلم من تلك المنكرات
والمحرّمات.
وفي هذه الورقات بيان حكم ستر
الجدران كما ذكرها أهل العلم قديماً وحديثاً فإن أصبت فمن الله وحده وإن أخطأت فمن
نفسي والشيطان واللهُ المستعان.
وسأسرد أولاً أقوال أهل العلم في
هذه المسألة قديماً وحديثاً معزوّةً الى مصادرها ثم أعرض خلاصة كلامهم رحمهم الله
تعالى:
1- قال البخاريّ رحمة الله في صحيحة : بابٌ :
هل يرجع إذا رأي مُنكراً في الدعوة؟ ورأى ابنُ مسعود صورة ً في البيت فرجع ، ودعا
أبنُ عمر آبا أيوبَ فرأى في البيت ستراً على الجدران ، فقال أبنُ عمر غلبنا عليه
النساء ، فقال : من كنتُ أخشـى عليه فلم أكن أخشـى عليك ، واللهِ لا أطعمُ لكم
طعاماً فرجع .
ثم ذكر البخاريُّ حديث عائشة
رضي الله عنها في قصّة النمرقة التي فيها تصاوير قال ابن حجر رحمه الله في شرح
الحديث : رقم (5181) المجلد التاسع صـ 249 فتح الباري: (قوله : ودعا ابن عمر أبا أيوب فرأى في البيت
ستراً على الجدار....) وصله أحمد في كتاب الورع و مسـدد في مسنده ومن طريقه
الطبراني من رواية عبدالرحمن بن اسحق عن -الزهري عن سالم بن عبدالله بن عمر قال (أعرست في عهد أبي ، فآذن أبي الناسَ فكان أبو أيوب فيمن آذناً وقد ستروا بيتي
بنجّاد أخضـر ، فأقبل أبو أيوب فاطلع فرآه فقال : يا عبدالله أتسترون الجدر ؟ فقال
: غلبنا عليه النساء يا أبا أيوب ..... الخ).
وقال ابن حجر : وقد وقع نحو ذلك
لابن عمر فيما بعد فأنكره وأزال ما أنكر ولم يرجع كما صنع أبو أيوب ، فروّينا في
كتاب الزهد لأحمد من طريق عبدالله بن عتبة قال (دخل ابن عمر بيت دعاه إلى عرس فإذا
بيته قد ستر بالكرور ، فقال ابن عمر : يا فلان متى تحوّلت الكعبة في بيتك؟ ثم قال
لنَفَرٍ معه من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلَّم : ليهتك كلُّ رجل ما يليه).
وقال ابن حجر أيضاً : وأخرج ابنُ
وهب ومن طريقه البيهقي (ان عبيد الله بن عبدالله عمر دُعي لعرس فرأى البيت قد سُتر
فرجع) فسئل فذكر قصّة أبي أيوب).
ثم قال ابن حجر في شرح الحديث صـ 250 :
(أمّا حكم ستر البيوت والجدران
ففي جوازه اختلاف قديم وجزم جمهور الشافعيّة بالكراهة وصرح الشيخ أبو نصـر المقدسي
منهم بالتحريم واحتجً بحديث عائشة (أن النبيَّ صلى الله عليه وسلَّم وقال: اِنّ
الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين ، وجذب الستر حتى هتكه) أخرجه مسلم.
قال البيهقي : هذه اللفظة تدل
على كراهة ستر الجدار وقال غيُره : ليس في السياق ما يدل على التحريم وإنّما فيه
نفي الأمر لذلك ، لكن يمكن أن يحتج بفعله عليه السلام في هتكه وجاء النهي عن ستر
الجدر صحيحاً منها حديث ابن عباس عند أبي داود وغيره (ولا تستروا الجدر بالثياب)
وفي إسناد ضعف (والحديث في ضعيف أبي داود للألباني) وله شاهد مرسل عن علي بن
الحسين أخرجه ابن وهب ثم البيهقي من طريقه ، وعند سعيد بن منصور من حديث سلمان رضي
الله عنه موقوفاً (انّه أنكر ستر البيت وقال :أمحموم بيتكم أو تحولت الكعبة عندكم
؟ وقال: لا أدخله حتى يُهتك ، وتقدّم قريباً خبر أبي أيوب وابن عمر في ذلك.
وأخرج الحاكم والبيهقي من حديث
محمد بن كعب عن عبدالله بن يزيد الخطمي رضي الله عنه أنه رأى بيتاً مستوراً فقعد
وبكى وذكر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلَّم فيه (كيف بكم إذا سترتُم بيوتكم،،
الحديث وأصله في النسائي.
أنتهى كلام ابن حجر رحمه الله –
راجع فتح الباري – المجلد التاسع صـ 249 الى صـ251.
2- الإمام البغوي في كتابه شرح السنّة –
الجزء التاسع من صـ 146 الى صـ 149 بعد أن ذكر حديث عائشة في قصة النمرقة وهو في الصحيحين قال
في شرح الحديث صـ 147 وروي عن سفينة أبي عبدالرحمن أن رجلاً ضَاف علي بن أبي طالب
فصنع له طعاماً فقالت فاطمة : لودعونا رسول الله فأكل معنا ، فدعوه، فجاء فوضع يده
على عضادتي الباب ، فرأى القرام قد ضُرب به في ناحية البيت ، فرجع (عليه الصلاةُ
والسلام) قالت فاطمة : فتبعته ، فقلت : يا رسول الله ماردَّك ؟ قال إنه ليس لي أو
لبنيّ أن يدخل بيتاً مُزوقاً أي مزيناً.
الحديث أخرجه أبو داود وابن
ماجه وسنده حسن هو في صحيح ابي داود (3194)
ثم قال البغوي : ورُوي عن
عائشة قالت : أخذتُ نمطاً فسترته على الباب ، فجذبه يعني رسول الله حتى هتكه أو
قطعه وقال : إنّ الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين) مسلم وأحمد (ثم ذكر رحمه
الله قصّة ابن عمر مع أبي أيوب رضي الله عنهما التي سبق ذكرها).
انتهي الكلام البغوي رحمه الله.
3- الإمام الشوكاني في نيل الأوطار الجزء
السادس صـ 185.
قال الشوكاني
رحمه الله : باب من دعي فرأى منكراً فلينكره وإلاّ فليرجع – وذكر تحت الباب قصّة
أبي أيوب مع ابن عمر رضي الله عنهما فقال : قال أحمد وقد خرج أبو أيوب حين دعاهُ
ابن عمر فرأى البيت قد سُتر ودعا حذيفة فخرج ثم ذكر في شرح القصّة ما ذكره ابن حجر
رحمه الله في الفتح .
4- الإمام ابنُ قدامه في كتابه المغني
المجلّد الثامن صـ114 و صـ 115
كتاب الوليمة مسئلة رقم (5676) صـ114 وقال رحمه الله).
(فأمّا سُتر
الحيطان بسُتور غير مصوّرة فإن كانَ لحاجة من وقاية حر أو برد فلا بأس به (ثم قال)
: وإن كان لغير حاجة فهو مكروه وعذر في الرجوع عن الدعوة وترك الإجابة ( واستدل
بقصّة أبي أيوب وابن عمر رضي الله عنهما).
ثم ذكر
قصّة عبدالله بن يزيد الخطمي رضي الله عنه والتي فيها : قال عبدالله : أفلا أبكي
وقد بقيت حتى رأيتكم تسترون بيوتكم كما تُستر الكعبة؟
(قال ابن حجر سابقاً :
أخرجه الحاكم والبيهقي وأصله في النسائي – فتح 9/251)
ثم قال ابن قدامه
: وقد روى الخلال بإسناد عن ابن عباس وعلي بن الحسين عن النبي صلى الله عليه
وسلَّم أنه نهى أن تُستر الجدر ، وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلَّم لم
يأمر فيما رزقنا أن نستر الجدر،ثم قال : إذا ثبت هذا فإن ستر الحيطان مكروه غير
محّرم وهذا مذهب الشافعي إذ لم يثبت في تحريمه دليل وقد فعله ابن عمر ، وإنما كره
لما فيه من السـرف ، وقد قيل هو محّرم للنهي عنه والأول أولى فإن النهي لم يثبت
ولو ثبت لحمل على الكراهة لما ذكرها.
انتهى كلامه رحمه الله –
المغني 8/114 و115.
قلتُ : قد بين ابن حجر رحمه الله أن حديث النهي عن ستر الجدر ضعيف ولكن له
شاهد مرسل عن علي بن الحسين .
ثمَّ إنّ فعل ابن
عمر كانَ قبل أن يعرف من أبي أيوب ولكنّه عندما علم أنكر ستر الجدر بدليل ما ذكره
ابن حجر سابقاً أن ابن عمر دُعي إلى عُرسْ فإذا بيته قد ستر بالكرور فقال : يا
فلان متى تحولت الكعبة في بيتك ثم قال لأصحابه ليهتك كل رجل ما يليه) فتح -9/250.
5- الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله في
كتابه آداب الزفاف – الأدب رقم 38
قال في الأدب 38 : الإمتناع من مخالفة الشـرع : ويجب عليه أن يمتنع من كل ما فيه
مخالفة للشـرع وخاصّة ما اعتاده الناس في مثل هذه المناسبة وأنا أنبّه هنا على أمور
هامة منها.
1- تعليق الصور (ثّم بيّن رحمه الله حكم ذلك).
2- ستر الجدران بالسجّاد : الأمر
الثاني ممّا ينبغي : ستر الجدر بالسجاد ونحو ولو من غير الحرير لأنه سرف وزينة غير
مشـروعه لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله غائباً في غزاة غزاها فلما
تحيّنت قُفوله أخذت نمطاً فيه صورة كانت لي فسترت به على العُرض فلماَّ دخل رسول
الله تلقيته في الحجرة فقلت :السلام عليك يا رسول الله ، الحمد لله الذي أعزّك
فنصـرك وأقرَّ عينيك وأكرمك ، قالت فلم يكلمني ! وعرفت في وجهه الغضب ، ودخل البيت
مسـرعاً وأخذ النمط بيده فجذبه حتى هتكه ثم قال : أتسترين الجدار بستر فيه تصاوير،
إن الله لم يأمرنا فيما رزقنا أن نكسو الحجارة والطين ...) رواه مسلم وأبو عوانه –
راجع تخريج الحديث في الكتاب للأهمّية.
ثم قال الشيخ
الألباني : ولهذا كانَ بعض السلف يمتنع من دخول البيوت المستورة جُدرها (ثم ذكر
قصة أبي أيوب وابن عمر الصحيحة).
وفي الهامش صـ 200 من الكتاب ذكر الشيخ الألباني عن شيخ الإسلام ابن تيمية في
الاختيارات 144 : ... ويكره تعليق الستور على الأبواب من غير حاجه لوجود
أَغْلاقٍ غيرها من أبواب ونحوها وكذلك الستور في الدهليز لغير حاجه فإن ما زاد على
الحاجة فهو سرف – وهل يرتقي الى التحريم ؟ فيه نظر).
انتهى كلام إبن تيمية الذي نقله
الألباني صـ 200 في آداب الزفاف.
قال الألباني: (كلام ابن تيمية وغيره من العلماء فيما إذا كان الستر صوفاً أو قطناً أو غيره أمّا
إذا كان الستر من حرير أو ذهب فيحرم كما تحرم سيور الحرير والذهب على الرجال
والحيطان والأثواب التي تختص بالمرأة وهذا قول شيخ الإسلام في الاختيارات صـ 144 فليراجع .
هذا ما نقله الشيخ الألباني عن
شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.
الخلاصــــة:
بعد أن ذكرت بعض أقوال أهل العلم المحققين
وجدت أن حكم المسألة مختلف فيه على قولين : كراهة وتحريم.
أ- أمّا من قال بالكراهة فهم جمهور الشافعّية وهذا ما ذكره ابن حجر في
الفتح وكذلك أيّده النووي في شرحه لمسلم وصَّححه وهو قول ابن قدامه في المغني
وكذلك في الشـرح الكبير تأييد لذلك وهو قول شيخ الإسلام في الاختيارات.
وسبب الكراهة عندهم هو أن قوله عليه الصلاة والسلام
(انّ الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين...) رواه مسلم ، يقتضـي أنه ليس بواجب
ولا مندوب ولا يقتـضي التحريم ، وكذلك يستدلون بفعل ابن عمر رضي الله عنه عندما
زاره أبو أيوب وكذلك قالوا أن النهي عن ستر الجدران لم يثبت ولو ثبت لحُمل على
الكراهة.
ب- أما من قال بالتحريم فمنهم أبو نصـر المقدسي الشافعي وكأنه رأي ابن
حجر والشوكاني والبغوي ومن المعاصرين الشيخ الألباني رحمه الله.
وسبب التحريم والمنع عندهم ما
يلي:-
1. نهي النبي صلى الله عليه وسلّم عن ستر الجدر
وقد قواهُ ابنُ حجر وذكر أن له شواهد.
2. قوله عليه الصلاةُ والسلام لفاطمة (إنه ليس
لي أن أدخل بيتاً مزوّقاً) وهو حسن رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد – راجع صحيح ابن
ماجه ومشكاة المصابيح .
3. أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم جذب الستر
حتى هتكه كما في حديث عائشة عند مسلم وهذا ما قاله ابن حجر حيثُ قال : يمكن أن
يحتج بفعله عليه الصلاة والسلام في هتكه – يعني التحريم .
4. فعل أبي أيوب الأنصاري مع ابن عمر عندما قال
(والله لا أطعُم لكم طعاماً فرجع) عّلقه البخاري وهو موصول.
5. ذكر ابن حجر قصّة سلمان الفارسي أنه أنكر
ستر البيوت وقال: أمحموم بيتكم وتحولت الكعبةُ عندكم ؟ قال . لا أدخله حتى يُهتك).
6. قصّة الصحابي عبدالله بن يزيد الخطمي أنه
رأى بيتاً مستوراً فقعد وبكى وذكر حديثاً مرفوعاً فيه (كيف بكم إذا سترتُم
بيوتكم) قال إبن حجر: الحديث وأصله في النسائي.
7. قصّة عبيدالله بن عبدالله بن عمر أنه دعي
لعرس فرأى البيت قد سُتر فرجع – راجع شرح ابن حجر.
8. أن ستر الجدران من السـرف ونهى الشـرعُ عن
الإسراف والتبذير.
ثمّ - ردَّوا على أدلَة مَنْ قال
بالكراهة بما يلي:
1- أن ابن عمر لم يعلم الحكم بالتحريم إلاّ
عندما زاره أبو أيوب بدليل أنه أزاله وأنكره بعد ذلك عندما دعي لعرس وأمر أصحابه
بأن يهتك كلّ رجل ما يليه) راجع شرح أبن حجر.
2- أن النهي عن ستر الجدران أثبته ابن حجر
بشواهد كثيرة يقوي بعضها بعضاً.
3- إنّ الذين قالوا بالكراهة : قالوا أن ستر
الحيطان عذرّ في الرجوع عن الدعوة وترك الإجابة.
وآخر دعوانا أن الحمدلله
رب العالمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق