الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام
على خاتم النبيين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده
ورسوله ، أما بعد
:
مقدّمةٌ :
فهذه مسألة من أهم المسائل التي يحتاجها المسلم في حياته ولها
فروع كثيرة منها
:
*هل يجوز لغير المتوضئ ذكر الله تعالي ؟
* هل يجوز لغير المتوضئ قراءة القرآن سواء كان محدثا حدثا أصغر
أو أكبر ؟
* هل يجوز للجنب والحائض والنفساء قراءة القرآن ومس المصحف ؟
* وقبل ذكر هذه المسائل لابد أن نعلم بأنها من المسائل التي اختلف
فيها العلماء اختلافا كثيراً ، وذلك لاختلافهم في وجوه الاستدلال من الأدلة وكذلك اختلافهم
في صحة وضعف تلك الأدلة ، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالي .
* فمن العلماء من أجاز للجنب قراءة
القرآن . ومنهم من منع ذلك.
* ومنهم من أجاز للحائض قراءة القرآن
. ومنهم من منع ذلك .
* ومنهم من منع مس المصحف للحائض والجنب
والمحدث . ومنهم من أجاز ذلك .
* ومن العلماء من أجاز قراءة بعض الآيات
للجنب والحائض
.
*
ومنهم من فرق
بين مس المصحف وقراءة القرآن ومنهم من لم يفرق بينهما في الحكم .
*
ومنهم من جوز
للجنب والحائض مس المصحف وقراءة القرآن للتعلم أو التعليم .
وهكذا في مسائل
كثيرة . والمعلوم أن الحق لا يتعدد وإن اختلفت الأقوال فالجميع مأجور ، فمن اجتهد وأصاب
الحق فله أجران ، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد .
' وهذه بعض أقوال علمائنا التي تدل
على اختلافهم في فروع هذه المسألة :
1- قال الأمام النووي في المجموع في
باب ما يوجب الغسل (مذهبنا أنه يحرم على الجنب والحائض قراءة القرآن ، وحكاه أصحابنا
عن عمر ، وأحمد واسحق ، وقال داود : يجوز لهما قراءة كل القرآن وروي ذلك عن ابن عباس وابن المسيب ، واختاره ابن
المنذر ، وقال مالك : يقرأ الجنب الآيات اليسيرة للتعوذ ، وفي الحائض روايتان عنه،
وقال أبو حنيفة : يقرأ الجنب بعض آيه ولا يقرأ آيه … ثم ذكر الأدلة)
2- قال
البخاري في صحيحه فتح (1/407) : باب : تقضي الحائض المناسك كلها
إلا الطواف بالبيت ، ثم قال : قال إبراهيم : لا بأس أن تقرأ الآية ، ولم ير ابن عباس
بالقراءة للجنب بأسا ، وكان النبي يذكر الله في كل أحيانه…) ونقل ابن حجر عن ابن رشيد
قال : إن مراد البخاري الاستدلال على جواز قراءة الحائض والجنب بحديث عائشة ، ولهذا
تمسك البخاري ومن قال بالجواز غيره كالطبري وابن المنذر وداود بعموم حديث كان يذكر
الله على كل أحيانه)
3- قال الشوكاني في نيل الأوطار (1/266)
(ذهب إلى تحريم
قراءة القرآن على الجنب القاسم والهادي والشافعي ، وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجوز له
قراءة دون آية ، وقال الأمام يحي وبعض الحنفية يجوز ما فعل لا لقصد التلاوة)
4- قال البغوي في شرح السنة (2/43) : (وجوز ابن المسيب وعكرمة للجنب
قراءة القرآن ، ويروى عن ابن عباس ، وجوز مالك للحائض قراءة القرآن وجوز للجنب أن يقرأ
بعض آية)
وستأتي في أثناء
البحث أقوال أخرى أيضاً …
' فروع المسألة : وهي أربعة ذكرها والاختلاف
فيها والترجيح مع الأدلة :-
الفرع الأول : حكم ذكر الله تعالي ما عدا قراءة
القرآن لغير المتوضئ . سواء كان محدثا حدثا أصغر أو حدثا أكبر أو كانت المرأة حائضا
أو نفساء
:
يجوز لغير المتوضئ
وللجنب وللحائض والنفساء ذكر الله ما عدا قراءة القرآن باتفاق العلماء كالتسبيح والتهليل
والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وغيرها من الأذكار ، قال الأمام البغوي
(توفي 510 هـ) : (واتفقوا على أنه يجوز لهما – أي الجنب والحائض – ذكر الله
سبحانه وتعالي بالتسبيح و التحميد والتهليل وغيرها لحديث عائشة قالت (كان رسول الله يذكر الله على كل أحيانه) رواه
مسلم (373) وعلقه البخاري (1/347) ورواه أبو داود وابن ماجة . (راجع شرح السنة للبغوي (2/42)) .وذكر ابن قدامه في المغني (1/165) أنه لا يوجد خلاف في المسألة ، وكذلك
غيره من أهل العلم كالألباني .
' وهل يكره لهم ذكر الله بغير طهارة
؟
لا شك أن الأفضل للمؤمن أن يذكر الله على أكمل طهارة وهذا لا
خلاف فيه
.
' ولكن هل ارتكب مكروها أم لا ؟
عن المهاجر بن قنفذ رضي الله عنه أنه أتي النبي صلى الله عليه
وسلم ، وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه حتى توضأ ، ثم اعتذر إليه فقال : "إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر" رواه
أبو داود والنسائي وابن ماجة .
وفي الصحيحين عن أبي جهيم قال (أقبل النبي صلى الله عليه وسلم
، من نحو بئر جمل ، فلقيه رجل فسلم عليه ، فلم يرد عليه النبي حتى أقبل على الجدار
، فمسح بوجهه ويديه ، ثم رد عليه السلام) البخاري
(1/374) مسلم 369 ، فالحديثان
يدلان على كراهية النبي لذكر الله وهو السلام بغير طهارة أو تيمم . فقال بعض أهل العلم
: يحمل ذلك على الكراهة الشرعية التي لا يأثم فاعلها ويثاب تاركها امتثالا . وقال بعض
أهل العلم : لا يدل ذلك على الكراهة الشرعية ، وغاية ما تدل عليه الأحاديث أنه لا تطيب
نفسه صلى الله عليه وسلم إلا بأن يذكر الله
تعالي وهو على طهارة ، ولأنه لم ينهى عن ذلك . ومع القول بالكراهة فإنها لا تعارض الجواز
بحال ، ولذا قال الأمام ابن خزيمة في صحيحه (1/103) مبوبا على حديث المهاجر رضي الله
عنه (باب استحباب الوضوء لذكر الله ، وإن كان الذكر على غير وضوء مباحا) قال الشيخ
الألباني رحمه الله (نعم ، الأفضل أن يقرأ على طهارة ، لقوله صلى الله عليه وسلم حين
رد السلام عقب التيمم "إني كرهت أن أذكر الله
إلا على طهارة ") السلسلة
الصحيحة رقم (406).
الفرع الثاني :حكم قراءة القرآن للمحدث حدثا أصغر
(لغير المتوضئ) : يجوز لغير المتوضئ قراءة القرآن عن ظهر قلب باتفاق العلماء
قال الأمام
البغوي في شرح السنه (2/48) (فأما قراءة القرآن عن ظهر قلب ،
فاتفقوا على جوازها للمحدث) يعني المحدث حدثا أصغر لأنه ذكر بعد ذلك الاختلاف في غيره
. والدليل قول عائشة (كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، يذكر الله في كل أحيانه) رواه مسلم (373) وغيره ، قال ابن خزيمة في صحيحه (1/104) باب الرخصة في قراءة القرآن على
غير وضوء
.
' وهل يكره لغير المتوضئ قراءة القرآن
؟ لا شك أن الأفضل للمؤمن أن يقرأ القرآن على أكمل طهارة وهذا لا خلاف فيه ، والقول
بالكراهة لا ينافي الجواز كما مر معنا في الفرع الأول .
الفرع الثالث : حكم قراءة القرآن للمحدث حدثا
أكبر (الجنب والحائض والنفساء) . اختلف العلماء في هذه المسألة اختلافا كبيرا
* يقول الأمام النووي في المجموع في باب ما يوجب الغسل (مذهبنا
أنه يحرم على الجنب والحائض قراءة القرآن ، قليلها وكثيرها حتى بعض آية ، وبهذا قال
أكثر العلماء … وقال داود يجوز للجنب والحائض
قراءة القرآن وروي هذا عن ابن عباس وابن المسيب .. واختاره ابن المنذر ، وقال مالك
: يقرأ الجنب الآيات اليسيرة للتعوذ . وفي الحائض روايتان عنه ، وقال أبو حنيفة : يقرأ
الجنب بعض آية ولا يقرأ آية) ثم ضعف النووي أدلة المذهب في منعهم قراءة القرآن للمحدث
حدثاً أكبر.
* قال البغوي في شرح السنة (2/43) ( قال أكثر أهل العلم : لا يجوز
للجنب ولا للحائض قراءة القرآن وهو قول الحسن وسفيان والشافعي وأحمد واسحق ، وجوز ابن
المسيب وعكرمة للجنب قراءة القرآن ويروى ذلك عن ابن عباس ، وجوز مالك للحائض قراءة
القرآن . وجوز للجنب أن يقرأ بعض آية ، وقال إبراهيم وسعيد بن جبير : للجنب والحائض
يستفتحان الآية من القرآن ولا يتمانها ، وقال عطاء : لا يقرأ القرآن الحائض إلا طرف آية).
* قال ابن القيم في أعلام الموقعين (3/23)
(جواز قراءة
القرآن للحائض .. وهذا مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد وأحد قولي الشافعي والنبي
لم يمنع الحائض من القرآن )
والراجح في
المسألة هو (جواز قراءة القرآن للجنب والحائض والنفساء)
(أ) وممن جوز القراءة للجنب ابن عباس وابن المسيب وعكرمة
وداود وابن المنذر والطبري ومالك وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وابن حزم والشوكاني
والألباني . واستدلوا بما يلي :
1- حديث عائشة (كان النبي يذكر الله على كل أحيانه) مسلم
(1/282) والقرآن من أفضل الذكر ، ولأن رسول
الله كان أحيانا ينام هو جنب لا يغتسل حتى الصباح وكان لا ينام إلا بعد أن يقرأ سورة
تبارك . وحضنا أن نقرأ آية الكرسي والمعوذات عند النوم . فلا تحرم قراءة القرآن للجنب
. قال الصنعاني حديث رقم (72) (والحديث مقرر للأصل وهو ذكر الله
على كل حال من الأحوال ، وهو ظاهر في عموم الذكر . فتدخل تلاوة القرآن ولو كان جنبا)
2- أورد البخاري أثر ابن عباس وقد وصله
ابن المنذر بلفظ (أن ابن عباس كان يقرأ ورده وهو جنب) قال ابن حجر في الفتح (1/407) : (الأحسن ما قاله ابن رشيد تبعا
لابن بطال وغيره إن مراد البخاري الاستدلال على جواز قراءة الحائض والجنب بحديث عائشة
، ولهذا تمسك البخاري ومن قال بالجواز غيره كالطبري وابن المنذر وداود بعموم حديث
(كان يذكر الله على كل أحيانه)
3- ومن
الأدلة :البراءة الأصلية حتى يصح ما يصلح لتخصيص عموم (كان يذكر الله على كل أحيانه) وللنقل عن هذه البراءة – قال الشوكاني
في نيل الأوطار (1/266)
أما أدلة المانعين
من قراءة القرآن للجنب فالأجوبة عليها كما يلي :
1- حديث علي (لم يكن يحجزه عن القرآن للجنب شيء ليس الجنابة) أحمد
والأربعة .
والجواب :أنه
حديث ضعيف في سنده عبد الله بن سلمة الذي تغير حفظه في آخر عمره ، وقل أعل الدار قطني
الحديث في العلل (3/248) والبزار (1/287) ، وذكر الأمام الشافعي هذا الحديث
وقال (لم يقل أهل الحديث بثبوته) مختصر سنن أبي داود للمنذري
(1/156) وذكر
الخطابي أن الأمام أحمد كان يوهن حديث علي هذا مختصر السنن (1/156) وقال الأمام النووي في المجموع عنه
(وقال غيره من الحفاظ المحققين : هو حديث ضعيف) (2/159) ، ونقل ابن حجر في التلخيص الحبير
(1/139) عن
ابن خزيمة قوله : لا حجة في حديث علي ، لمن منع الجنب من القراءة ، لأنه ليس فيه نهي
وإنما هي حكاية فعل) وقد ضعف الحديث الشيخ الألباني في أرواء الغليل رقم
(485) وتمام
المنة صـ116
.
2- حديث ابن عمر (لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن) الترمذي
وابن ماجة .
والجواب : أنه
حديث ضعيف كما قال أئمة الحديث ، قال أحمد بن حنبل في العلل (2/300) هذا باطل ، وضعفه البيهقي في سننه
وذكره ابن أبى حاتم في العلل (1/49) ، وقال ابن حجر في الفتح (1/409) ضعيف من جميع طرقه . وقال ابن القيم
في أعلام الموقعين (3/23) (لم يصح ، فإنه حديث معلول باتفاق
أهل العلم بالحديث) . وضعفه النووي في المجموع رغم أنه من أدلة مذهبه في باب الغسل .
3- حديث
علي : (رأيت رسول الله توضأ ، ثم قر
شيئا من القرآن ، ثم قال (وهكذا لمن ليس بجنب ، أما الجنب فلا ، ولا آية) أحمد
وأبو يعلي.
والجواب :أنه
حديث ضعيف فيه علتان ، قال الشيخ الألباني في تمام المنة صـ117
(إن لهذه الطريق
علتين ، الضعف والوقف أما الضعف فسببه أن في سنده عامر بن السمط ، و لم يوثقه غير ابن حبان ، وأما الوقف فقد أخرجه الدار قطني عن علي موقوفا
عليه كما بينت ذلك في ضعيف سنن أبي داود (31) فإذا لم تصح الأحاديث لم يبق للمانعين
حجة
.
(ب) وممن جوز للحائض ، وقياسا عليها النفساء ، قراءة
القرآن :
مالك وداود وسعيد بن المسيب وابن المنذر والشوكاني
وابن حزم والصنعاني وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وعطاء والألباني ، واستدلوا بما
يلي
:
1- قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة حيث طمثت في الحج (اصنعي كل ما يصنعه الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا تصلي)
متفق عليه . فأباح لها وهي حائض كل أنواع القرب والعبادات ما عدا الصلاة
والطواف بالبيت وأراد البخاري بهذا الحديث الاستدلال على جواز قراءة الحائض للقرآن
كما ذكر ابن حجر في الفتح (1/407)
2- الأصل عدم التحريم إلا بنص : (قال
الشيخ الألباني شريط (131) والحائض يجوز لها أن تقرأ القرآن
، ولا يوجد نص من كتاب الله ولا سنة رسول الله يحرم ذلك)
أما أدلة المانعين
من قراءة الحائض للقرآن فالإجابة عليها كما يلي :
3- حديث ابن عمر (لا تقرأ الحائض ولا
الجنب شيئا من القرآن) الترمذي وابن ماجة وقد مر أنه ضعيف .
وأما قياسهم
الحائض على الجنب :الجواب : كما ذكره ابن القيم في أعلام الموقعين (3/23) وقال : الفرق الصحيح بينهما مانع
من الإلحاق وذلك من وجوه … ثم نذكر ثلاثة منها فلتراجع وهي : (أن الجنب يمكنه التطهر
متى شاء بخلاف الحائض ، أن الحائض يشرع لها ما يصنعه الحاج بخلاف الجنب وأن الحائض
يشرع لها أن تشهد العيد مع المسلمين وتعتزل المصلى بخلاف الجنب)
' أما الجواب : على من أجاز لهما قراءة
بعض الآيات أو للتعلم والتعليم أو قراءة الجنب للآية أو الآيات أن قصد بقراءتها الدعاء
فهو (يقال له : كل هذا التفريق لا دليل عليه شئ ، لا من كتاب ولا من سنة ، إنما هو
الرأي وحده ، ثم إن الآية والآيتين تسمى قرانا لأن الجزء كالكامل ، والآية الواحدة كالسورة والسورة كالقرآن كله ،
فلا يجوز التفريق بين الآية وبعض الآية والسورة ولا بين السورة والقرآن في حكم القراءة
والمس أيضا)
الفرع الرابع : حكم مس المصحف للمحدث حدثا أصغر
أو أكبر
:
' قال البغوي في شرح السنة (2/48) (والعمل عند أكثر أهل العلم على
أن المحدث أو الجنب لا يجوز له حمل المصحف ولا مسه … وقال الحكم وحماد وأبو حنيفة يجوز
حمله ومسه ، وقال أبو حنيفة : لا يمس الموضع المكتوب)
' قال الشوكاني في نيل الأوطار (1/207) (وأما المحدث حدثا أصغرا فذهب ابن
عباس والشعبي والضحاك وزيد بن على والهادوية وداود إلى إنه يجوز له مس المصحف ، وقال
أكثر الفقهاء لا يجوز)
' قال ابن حزم في المحلى
(1/107) (وأما
مس المصحف ، فإن الآثار التي احتج بها من لم يجز للجنب مسه ، فانه لا يصح منها شيء
لأنها مرسلة ، وإما صحيفة لا تسند ، وإما عن مجهول ، وإما عن ضعيف ، وقد تقصيناها في
غير هذا المكان) ' وقال الشيخ العثيمين في
الفتاوى الجزء الأول صـ 314 (لا يجوز لمن عليه حدث أكبر سواء
كان جنابة أو حيضا أو نفاسا أن يمس المصحف إلا من وراء حائل)
' قال الشيخ الألباني في تمام المنة صـ117
(وجب الرجوع
إلى الأصل وهو الإباحة وهو مذهب داود وأصحابه واحتج له ابن حزم (1/77-80) ورواه عن ابن عباس وسعيد بن جبير
وسعيد بن المسيب)
ويلاحظ مما
سبق أن أكثر العلماء يرون تحريم مس المصحف على غير المتوضئ ومن غير جنابة ، ومثل الرجل
في ذلك المرأة أيضا في الحيض والنفاس ، واستدلوا بأدلة سنذكرها قريباً .
* والراجح والله وأعلم ما ذهب إليه كثير من
أهل العلم من جواز مس المصحف للمحدث حدثا أصغر وأكبر وممن قال ذلك :داود وأصحابه واحتج
له ابن حزم في المحلى (1/77-80) ورواه عن ابن عباس وسعيد بن جبير
وسعيد بن المسيب) .وذكره البغوي في شرح السنة (2/48) عن الحكم وحماد وأبي حنيفة ، ورجحه
الشوكاني في نيل الأوطار (1/206-207) ورد على أدله المخالفين كما فعل ابن
حزم في المحلى (1/77-80) وكذلك رجحه الألباني في تمام المنة
(116-117)
* واستدلوا على جواز مس المصحف للمحدث
بما يلي
:
1- قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة حيث طمثت في الحج (اصنعي كل ما يصنعه الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا تصلي)
متفق عليه في الفتح (1/407) . فأباح لها كل أنواع القرب والعبادات
ومنها مس المصحف وقراءة القرآن ، إلا الصلاة والطواف بالبيت .
2- قول عائشة (كان النبي يذكر الله على كل أحيانه) مسلم
(1/282) ومن
ذكر الله قراءة القرآن ومس المصحف للقراءة .
3- البراءة الأصلية أي عدم وجود دليل صحيح وصريح يمنع ذلك ، قال
الشيخ الألباني في تمام المنة صـ116 (والبراءة الأصلية مع الذين قالوا
بجواز مس القرآن من المسلم الجنب وليس في الباب نقل صحيح يجيز الخروج بها ، فتأمل)
أما أدلة المانعين
على المحدث مس المصحف والإجابة عليها فهي :
1- قوله تعالي (إنه لقرآن كريم ، في كتاب مكنون ، لا يمسه إلا المطهرون) سورة
الواقعة فقالوا
: لا يجوز لغير المتوضئ أن يمس المصحف . والجواب : هو أن التأويل بعيدٌ عن وجوه العربية
الصحيحة كما يلي
:
* أن الضمير في قوله (لا يمسه) راجع إلى الكتاب المكنون وهو اللوح المحفوظ لأنه الأقرب ، قال
بن كثير في تفسيره (8/21) (انه لقرآن كريم) أي أن هذا القرآن لكتاب عظيم (في كتاب مكنون) أي معظم في كتاب محفوظ موقر (لا يمسه) أي هذا الكتاب الذي في السماء (إلا المطهرون) يعني الملائكة ، وكذا قال ابن عباس وانس ومجاهد وعكرمة وسعيد
بن جبير وغيرهم) انتهي كلامه .
* قوله (المطَهرون) هم الملائكة الذين يكتبون من اللوح
المحفوظ ويمسونه ، وهذا هو تفسير كثير من السلف، ذكرهم ابن كثير في تفسيره (8/21) .
قال الأمام مالك في الموطأ (1/199) رواية يحي الليثي : أحسن ما سمعت
في هذه الآية) لا يمسه إلا المطَهرون (أنها بمنزله هذه الآية التي في عبس : قوله تعالى
(كلا إنها تذكره ، فمن شاء ذكره ، في صحف مكرمة ، مرفوعة مطهرة بأيدي سفره)
* قوله تعالي (لا يمسه
إلا المطَرون) خبر
وليس أمراً أو نهيا عن المس .
* في العربية لا يقال للمتوضئ (مطَهر) وإنما يقال (متطهر) كما
في قوله تعالي (فيه رجال يحبون أن يتطهروا)
وفي دعاء آخر
الوضوء (واجعلني من المتطهرين) فعلمنا أن الله لم يعن المصحف وإنما
عني كتاباً آخر وهو اللوح المحفوظ.
* ثم إن هذه الآية مكية ، والقرآن لم يجمع في مصاحف في مكة ، فهل
يمنع الله مس المصحف وهو لم يجمع بعد ، فان كان المحظور هو مس بعض القرآن الذي كان
مكتوبا في الرقاع وغيرها فان المشركين كانوا يمسون الكتب والرسائل ، فأولى أن لا يكون
حظرا من مسه على المسلم وإن كان جنبا .
وأخيرا . تبين
لنا أن هذه الآية (لا يمسه إلا المطَرون) ليس لها علاقة بموضوع مس وقراءة القرآن والمطَهرون هم الملائكة أما نحن فمتطهرون – قاله
الألباني في شريط (131) من سلسلة الهدي والنور .
2- ومن أدلة المانعين من مس المصحف للمحدث قوله صلى الله عليه
وسلم "لا يمس القرآن إلا طاهر" حديث
حسن بطرقه وشواهده . رواه النسائي ومالك وابن حبان – وصححه الألباني في إرواء الغليل
(122) قالوا
"لا يمس المصحف إلا متوضئ" والجواب : أن كلمه (طاهر) لفظ مشترك في لسان العرب
يطلق على الطاهر من الحدث الأكبر (إن كنتم
جنبا فاطهروا) ويطلق
على الطاهر من الحدث الأصغر (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين)
في المسح على
الخفين ، ويطلق على المؤمن (إن المؤمن لا ينجس أبدا) أي طاهر ، ويطلق على من ليس على بدنه
نجاسة بدليل الإجماع على أن الشيء الذي ليس عليه نجاسة حسية ولا حكمية يسمى طاهرا ،
فاللفظ المشترك (طاهر) مجمل فلا يحمل على أحد
معانيه إلا بقرينة والراجح حمله على المؤمن لوجود قرينة تدل على ذلك وهي قوله صلى الله
عليه وسلم "أن المؤمن لا ينجس"
أي طاهر سواء
كان محدثا أو جنبا أو غير ذلك . فمعنى (لا يمس
القرآن إلا طاهر) أي
مؤمن ، فلا يُمكَّنُ المشرك من مسه لغير الحاجة وقلنا من غير ضرورة لما ورد أن النبي
كان يكتب إلى الملوك الكفار بعض آيات لدعوتهم للإسلام .
فإن قيل أن هناك رواية للحديث بلفظ (لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر) الحاكم
والطبراني ، فقد
ضعفه النووي وابن كثير وابن حزم وغيرهم – نيل
الأوطار للشوكاني (1/259) والتلخيص الحبير (1/131)
.
3- واستدلوا بحديث (لم يكن يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة) أحمد
والأربعة وقد
مر معنا أنه حديث ضعيف وليس فيه حجه لأنه حكاية فعل وليس بنهي ، هذا إن صحّ وإلا فقد
ضعفه العلماء كما في صـ4
4- واستدلوا بحديث (إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر) أبو
داود وغيره وهو
صحيح وقد مر قريبا والجواب هو : أن الحديث لا يدل على المنع من القراءة ومس المصحف
، وإنما يدل على أفضلية ذكر الله وقراءة القرآن على طهارة . فالاستدلال ليس صريحا ،
بل محتمل ، وإذا تطرق الاحتمال بطل الاستدلال .
· لا فرق في الحكم بالجواز بين قراءة الجنب للقرآن وبين مسه القرآن ، إذ القرآن
قبل أن يدون في السطور فهو محفوظ في الصدور ، والتفريق بينهما تفريق لا دليل عليه .
* ما من شك في أن التطهر أدب من آداب التلاوة وهو الأحسن والأكمل .
* أن هذا الحكم وهو الجواز اختاره عدد كبير من العلماء على مر
الأعصار وهو لا ينافي بحال تعظيم القرآن كما يتوهمه البعض ، إذ أن تعظيم القرآن، النابع
من تقوى القلوب هو الموافق لهدي رسول الله عملا وقولا ، ولا ادعاء بلا دليل ودعوى بلا
برهان.
* لا يجدر بمؤمن عاقل أن يعرف الحق بدليله ثم يعدل عنه إلى سواه
، إتباعا للرأي أو أخذ بمذهب ورثه ، فالحق أحق أن يتبع .
* وإذا منعت الحائض والنفساء وكذلك منع الجنب من قراءة القرآن
ومس المصحف فإنه يترتب ضياع قراءة الأوراد والأدعية التي فيها آيات من القرآن .
* ثم إن الله تعالي تعبد العباد من غير حرج ومشقة ، والقول بتحريم
ذلك على المحدث ، فيه مشقة وحرج على الأمة .
والله يهدي
إلى سواء السبيل والله أعلم ،
وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق