الاثنين، 28 ديسمبر 2015

أحكام وفوائد في فصل الشتاء من السنة

نزول المطر في الشتاء قد يكون رحمة وقد يكون عذابا كما هو الواقع في العالم: في الصحيحين عن عائشة قالت : كان رسول الله إذا رأى غيما أو ريحاً عُرفَ في وجهه ، قالت: يا رسول الله ، إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا، رجاءَ أن يكون فيه المطر ، فأراك إذا رأيتَهُ عرف في وجهك الكراهيةُ ؟ فقال: يا عائشة! ما يؤمني أن يكون فيه عذابٌ؟ عُذّبَ قومٌ بالريح وقد رأى قومٌ العذابُ فقالوا (هذا عارض ممطرنا) خ (4829)  م (899) وفى صحيح مسلم (899) عن عائشة قالت: (كان رسول الله إذا كان يوم الريح والغيم عُرف ذلك في وجهه ،  واقبل أدبر ، فإذا أمطرت سُرَّ بِه وذهب عنه ذلك ، ويقول إذا رأى المطر : رحمة)  قال النووي في شرح مسلم (2/500) وكان خوفه أن يعاقبوا بعصيان العصاة ، وسروره لزوال سبب الخوف)

وسنذكر بعض الأحكام الشرعية في أبواب الطهارة والصلاة والمساجد والصيام والأذكار فقط :

(1) من باب الطهارة :

1- ماء المطر طاهرٌ في نفسِه مطهر لغيرِه قال تعالي (وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً)
2- الوضوء في البرد من الكفارات : قال صلي الله عليه وسلم "ثلاثُ كفارات : انتظارُ الصلاةِ بعد الصلاة ، وإسباغُ الوضوء في السبرات ، ونقلُ الأقدام إلى الجماعات" الطبراني- صحيح الجامع الصغير (3045) سلسلة الأحاديث الصحيحة (1802) . قال المناوي : السبراتُ هي شدة البرد – فيض القدير (3/307) . قال القرطبي (أي تكميله وايعابه مع شدة البرد وألم الجسم ونحوه) المفهم (3/593)
3- طين الشوارع : الأصل فيه الطهارة ولا يجب غسلُه من الثوب : في مصنف عبد الرازق عن عدة من التابعين (أنهم كانوا يخوضون الماء والطين في المطر ثم يدخلون المسجد فيصلون) المصنف (93) و ( 96).
4- المسح على الخفين والجوربين : كما ثبت ذلك في كثير من  الأحاديث الصحيحة ، وكذلك صحح الترمذي وابن حبان والألباني المسحَ على النعلين في الوضوء وهى رخصةٌ ، قال الألباني (إذا عرفت هذا فلا يجوز التردد في قبول هذه الرخصة بعد ثبوتِ الحديث بها) تمام النصح صـ83

(2) من باب الصلاة :

1-    نزولُ المطر يجيزُ التخلفَ عن مسجدِ الجماعةِ للعذر وليس للوجوب : صلاة الجماعة في المسجد واجبة على الرجال لحديث (من سمع النداء ولم يجب فلا صلاة له إلا من عذر) رواه أبو داود وابن ماجة وغيرُهما وصححه الألباني في إرواءِ الغليل (551) . والمطر عذر قليلا كان أو كثير لحديث أسامة بن عمير قال : كنا مع رسول الله زمن الحديبية ، وأصابنا مطر لم يبل أسافل نعالنا ، فنادى منادي رسول الله أن (صلوا في رحالكم) أحمد وأبو داود وصححه ابن خزيمة وابن حبان وبَّوبَ عليه في صحيحه (43815) بقوله (ذكر البيان بأن حكم المطر القليل وإن لم يكن مؤذيا حكم الكثير المؤذى منه).
      قال القرطبي في المفهم (3/1218) بعد ذكر أحاديث الرخصة (وظاهرها جوازُ التخلف عن الجماعة للمشقة اللاحقة من المطر والريح والبرد ، وما في معنى ذلك من المشاق المحرجة في الحضر والسفر) في صحيح مسلم (698) عن جابر قال (كنا مع رسول الله في سفر، فمُطرِنَا فقال : ليصلِّ من شاء منكم في رحله) ، وبَّوبَ ابن حبان قبله بقوله (ذكرُ البيانِ بأن الأمر بالصلاة في الرحال لمن وصفنا أمر إباحة لا أمر عزم)

2-     الآذان في المطر أو البرد : ويقول المؤذن بدل حي على الصلاة : صلوا في رحالكم ، أو يقول بعد الانتهاء من الأذان صلوا في بيوتكم أو(رحالكم) أو يقولها بعد الحيعلتين كما في الصحيحين عن ابن عباس انه قال لمؤذنه في يوم مطير (إذا قلت : اشهد أن محمداً رسول الله فلا تقل : حي على الصلاة ، قل : صلوا في بيوتكم ... ثم قال : فعلها من هو خيرٌ منى) خ (901) م (699)
      وكما في الصحيحين عن نافع قال: أذن ابن عمر في ليلة ثم قال صلوا في رحالكم ، فأخبرنا أن رسول الله كان يأمر مؤذنا يؤذن ثم يقول على اثره : ألا صلوا في الرحال ، في الليلة الباردة أو المطيرة في السفر) خ (1623) م (697) . ويجوز التخلف عن الجماعة حين العذر ، سواء قال المؤذن (صلوا في الرحال أو لم يقل)! .

3- مشروعيةُ الجمع بين الصلاتين في المطر وعند وجود حاجة أو شيء ما لم يتخذه عادة : والجمع رخصة منوطة بدفع الحرج والمشقة ، والأخذ بها يرفع كثيراً من الحرج عن أناس قد تضطرهم أعمالهم أو ظروف قاهرة إلى الجمع بين الصلاتين كالأطباء وغيرهم . في صحيح مسلم (705) عن ابن عباس أنه قال (صلّى رسول الله الظهر والعصر جميعا ، والمغرب والعشاء جميعا ،في غير خوف ولا سفر) وصححه ابن عبد البر في الاستذكار (6/24) ورواه الإمام مالك في الموطأ (1/144) ثم قال (أرى ذلك كان في مطر ، ووافقه الشافعي وغيره) المجموع (4/378) ، ولكن في مسلم (705) وأحمد وأبي داود والترمذي والنسائي عن ابن  عباس وفيه (من غير خوف ولا مطر). ورجحه ابن تيمية في الفتاوي (24/67) و (24/84) وذكر أن العلة هي رفع الحرج عن الأمة . وقال ابن المنذر (ولا معنى لحمل الأمر فيه على عذر من الأعذار ، لأن ابن عباس قد أخبر بأن العلة رفع الحرج) الأوسط (2/432) . وقال النووي (وذهب جماعة من الأئمة إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذ عادة وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك وعن جماعة من أصحاب الحديث واختاره ابن المنذر) شرح مسلم (5/219) . وكذا قال ابن حجر في الفتح (2/24) والزرقاني في شرح الموطأ (1/294) . وكذلك يجوز الجمع بين الصلاتين بعذر المطر في الجماعة تقديما   أو تأخيراً

4-  المسألة الخامسة في الصلاة : كيف الآذان والإقامة عند الجمع : قولان :
أ- ذهب الجمهور إلى أنه يؤذن آذان واحد ويقام لكل صلاة إقامة خاصة بها ، ودليلهم حديث جابر عند  مسلم (1218) وفيه (أن النبي صلى الصلاتين بعرفة بآذان واحد وإقامتين ، وأتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بآذان واحد وإقامتين)  قال الشافعي في الأم (1/106) (وفيه الدلالة على أن كل من جمع بين صلاتين في وقت الأولي منهما أقام لكل واحدة منهما وأذن للأولي وفي الآخرة يقيم بلا آذان)
 ب- وخالف في ذلك المالكية : واستدلوا بما ورد في البخاري (1677) عن أبي مسعود أنه أمر رجلا فأذن وأقام ثم  صلى المغرب ، ثم أمر رجلا فأذن وأقام)  قال ابن القيم (والصحيح الأخذ بحديث جابر وهو المجمع بينهما بآذان وإقامتين) تهذيب السنن – عون المعبود (5/405 -410) (وقال عن أمر ابن مسعود أنه موقوف عليه من فعله ، والمرفوع خلافه) .

6،7- تغطية الفم في الصلاة والسدل في الصلاة : عن أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم  أنه "نهي عن السدل في الصلاة ، وأن يغطي الرجل فاه" أبو داود  والترمذي وأحمد وصححه ابن خزيمة – المشكاة (764)
تغطية الفم هو التلثم ويكون غالباً من شدة البرد في الشتاء ، وقد يفعل في الصيف . والسدل : قال ابن الأثير في النهاية (3/74) (هو أن يلتحف بثوبه ، ويدخل يديه من داخل ، ويركع ويسجد وهو كذلك ، وهذا مطرد في القميص وغيره من الثياب) انظر الأوسط لابن المنذر (5/75) والروضة الندية لصديق (1/82) أي : وضع الملابس كالمعطف ونحوه على الكتفين دون إدخال الأيدي في الأكمام ويستثني السدل في البرد الشديد : كما روى أبو داود بسند صحيح من حديث وائل بن حجر في صفة صلاة النبي قال في آخره (ثم جئت بعد ذلك في زمان فيه برد شديد ، فرأيت الناس عليهم جل الثياب تحرك أيديهم تحت الثياب)

8- صلاة الاستسقاء : وهو طلب السقيا : في الصحيحين عن عبد الله بن زيد قال (خرج رسول الله إلى المصلى فاستسقى ، واستقبل القبلة ، وقلب رداءه وصلى ركعتين) خ (1005) وم (984) ، قال النووي (أجمع  العلماء على أن الاستسقاء سنة) شرح مسلم (6/187) ثم قال (فيه استحباب الخروج للاستسقاء إلى الصحراء) تبدأ بخطبة واحدة لما ثبت في حديث عائشة عند أبي داود والطحاوي وصححه ابن حبان والحاكم . ثم يدعو في نهاية الخطبة ويحول الخطيب رداءه عند استقبال القبلة وارادة الدعاء ، كذلك فان تحويل الرداء يكون للناس أيضا كما هو للأمام وهذا مذهب الجمهور ، بل قال ابن عبد البر في الاستذكار (7/139) (ولا اعلم خلافا أن يحول الناس وهم جلوس) ، واستدلوا بما رواه أحمد (4/164) عن عبد الله بن زيد بلفظ (وحول الناس معه) ولكن حكم الألباني على هذه الزيادة بالشذوذ تمام المنة صـ 264 عن أنس أن النبي استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء – رواه مسلم (896). والسنة في تحويل الرداء (جعل ما على الأيمن على الأيسر وعكسه) وهو قول الجمهور – كما ذكره ابن عبد البر في الاستذكار (7/138) وذكره ابن باز في تعليقه على فتح الباري (1/498) ثم يصلى ركعتين كصلاة العيد كما رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم . ويجهر في صلاة الاستسقاء كما في صحيح البخاري (1024) عن عبد الله بن زيد ، ولم يصح تعيين سور معينة في صلاة الاستسقاء – تمام المنه صـ264  وليس لها وقت معين يخرج فيه ولكن لا تفعل في أوقات النهى لعموم الأدلة – المغني (2/432) ويجوز الاستسقاء في خطبة الجمعة ولها أحكام خاصة:
    قال البخاري في صحيحه (كتاب الاستسقاء / باب 7) (باب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة) ثم ذكر حديث أنس أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة ، ورسول الله قائم يخطب فاستقبل رسول الله ثم قال : يا رسول الله ، هلكت الأموال ... فادع الله يغيثنا ، فرفع رسول الله يديه ثم قال "اللهم أغثنا". قال ابن حجر (وفيه إدخال دعاء الاستسقاء في خطبة الجمعة والدعاء به على المنبر  ولا تحويل فيه ولا استقبال ، والاجتزاء بصلاة الجمعة عن صلاة الاستسقاء) فتح (2/506) .
فائــدة : (في دعاء الاستسقاء صح رفع الأيدي في الدعاء للأمام والمأمومين ، لذلك بوب البخاري بقوله – باب رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء (21) ، وليس من السنة رفع اليدين بالدعاء في خطبة الجمعة كما قال النووي (2/471) وعزاه إلى مالك والشافعية وغيرهم وهو الصحيح لما ثبت عن مسلم عن عمارة بن رؤيبة قال (لقد رأيت رسول الله ما يزيد على أن يقول بيده هكذا ، وأشار بإصبعه المسبحة … أي يوم الجمعة) مسلم (874) ، ويؤيده حديث أنس في الصحيحين قال (كان النبي لا يرفع يديه في شيء من دعائه أي في الخطب والمواعظ إلا في الاستسقاء) خ (1031) م )(895) والحديثان يدلان على كراهة رفع الأيدي على المنبر حال الدعاء، وأنه بدعة . راجع نيل الأوطار للشوكاني (3/208) وعون المعبود (3/453). والآثار عن السلف في إنكار رفع اليدين للدعاء على المنبر يوم الجمعة كثيرة – انظر مصنف ابن أبي شيبة (2/147 و 14/78).

(3) من باب المساجد :

1-  قطع الصفوف بسبب المدفأة : قال الشيخ الألباني في الصحيحة (1-592) عند كلامه على مسألة الصلاة بين السواري وقطع الصفوف : (ومثل ذلك في قطع الصف المدافىء التي توضع في بعض المساجد وضعا يترتب منه قطع الصف دون أن ينتبه لهذا المحذور إمام المسجد والمصلون)

2- الفوضى الناشئة عن الجمع وعدمه بسبب اختلاف الناس في الجمع وعدمه ، والمساجد لها حرمة ومهابة ومكانة ولا يجوز رفع الصوت فيها ، والإمام هو سيد الموقف ، وهو الذي يتحمل مسؤولية فعله بينه وبين ربه ، كما قال النبي صلي الله عليه وسلم  (الإمام ضامن ، فإن أحسن فله ولهم وأن أساء فعليه ولهم) رواه ابن ماجة ، وهو في السلسلة الصحيحة (1767) ، فمن رضى بجمعه فليجمع ومن لم يرض يصلى بنية النفل أو ينصرف صامتا هادئاً .

(4) من باب الصوم :
           
1- اغتنام الصوم في أيام الشتاء : وقد صح عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: "الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة" السلسلة الصحيحة رقم (1922) ورواه أحمد وغيره وهو حسن لغيره .

2- حكم أكل البرد للصائم : عن أنس قال مطرنا بردا وأبو طلحة صائم فجعل يأكل منه وقال : إنما هذا بركة) أي ليس طعاما ولا شرابا ، وسنده صحيح كما قال ابن حزم ووافقه الألباني في الصحيحة (1/154) ولكن اتفق العلماء على ترك العمل بفعل أبى طلحة كما قال ابن رجب في شرح علل الترمذي (1/12) وقال البزار في مسنده (1/481) : لا نعلم هذا الفعل إلا عن أبى طلحة ، وقال ابن حزم في المحلى (6/255 – 258) (ومن الشواذ أن أبا طلحة كان يأكل البرد وهو صائم) .

(5) من باب الأذكار :

1- أذكار الاستسقاء : وهي كثيرة في كتب الأذكار وأكثر الدعاء الاستغفار لقوله تعالي في سورة نوح  (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً)

2- دعاء رؤية الريح : في صحيح مسلم (899) عن عائشة قالت : كان النبي إذا عصفت الريح قال "اللهم أني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر ما أرسلت به" وهناك أدعية أخرى لرؤية الريح في كتب الأذكار.

3- الدعاء عند رؤية السحاب والمطر : عن عائشة أن النبي كان إذا رأى ناشئا في أفق السماء ترك العمل وإن كان في صلاة ثم يقول " اللهم أني أعوذ بك من شرها " وأن مطر (اللهم  صيبا هنيئاً) وفي رواية   (اللهم صيبا نافعاً) رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد بسند قوي ، والرواية الأخرى في صحيح البخاري (1032) .

فوائـد أخـرى :
1- في صحيح مسلم (898) عن أنس رضى الله عنه قال : أصابنا مطر ونحن مع رسول الله ، فحسر رسول الله ثوبه حتى أصابه من المطر ، فقلنا لم صنعت هذا ؟ قال لأنه حديث عهد بربه.

2- أن من غرق نتيجة الفيضانات والسيول في الشتاء أو غيره وكان على دين وصلاح وحسن حال يرجى له الشهادة كما هو نص حديث رسول الله ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي قال "الشهداء خمسة ....... الغرق" خ (2829) م (1914) .

3- في البرد ، لابد من الحذر الشديد من إبقاء المدافىء بأنواعها كافة مشتعلة حالة النوم ، لما في ذلك من خطر الاحتراق أو الاختناق : لذلك أمر رسول الله بإطفاء النار عند النوم" إذا نمتم فأطفئوها عنكم" متفق عليه خ (6294) م )(2107) . وقال أيضاً "لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون" متفق عليه خ (6293) م (2105) قال ابن حجر (فتح 11/85) (قيده بالنوم لحصول الغفلة به غالبا ، ويستنبط منه أنه متى وجدت الغفلة حصل النهى) .



وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

الأحد، 13 ديسمبر 2015

محبة الرسول بين الاتباع والابتداع

  الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد :
& مقدمــة:
       فإن الله عز وجل افترض على العباد طاعة نبيه صلى الله عليه وسلم ومحبته وتوقيره والقيام بحقوقه ، فقام الصحابة والصالحون بأداء هذا الفرض حق قيام وظهر من حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما جعلهم يفدونه بكل عزيزٍ وغالٍ حتى إذا دب الضعف في هذه الأمة فظهر التفرق والاختلاف وظهر الغلوّ في رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أخرجوه من نطاق البشرية إلى مرتبة الألوهية وزعموا أنهم بذلك يريدون إظهار حبه وتعظيمه ولم يعلموا أن المحبة شئ مختلف تماماً عن الغلو ، فالأول فرض عين والثاني ضلال مبين . ولم يعلموا بأن أهم علامات حبه صلى الله عليه وسلم اتباعه في أفعاله وأقواله وسنته .
قال ابن القيم رحمه الله(لما كثر المُدّعون للمحبة ، طولِبوا بإقامة البيّنة على صحة الدعوى ، فتأخر الخَلق كلُهم وثبت اتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه ) مدارج السالكين(3/8)
*أما أسباب اختيار هذا الموضوع ( محبة الرسول بين الاتباع والابتداع) فهــي :
1- كون محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ركناً أصيلاً من أركان الإيمان فأردت أن أبين مكانة المحبة من الإيمان وحكمها وثمراتها وأسباب تقويتها
2- لأن بعض المسلمين يتسترون وراء الدعاوي لهذه المحبة فأردت أن أبين الشواهد والعلامات الصادقة لهذه المحبة ليتبين الصادق من الكاذب .
3- لأن بعض المسلمين ظنوا أن من لوازم المحبة الغلو فيه صلى الله عليه وسلم ، فأردت أن أبين أن المحبة شئ مختلف تماماً عن الغلو .
4- ولظهور كثير من البدع التي شوهت معالم الدين عند كثير من المسلمين بسبب الغلو ، فأردت أن أبين آثار الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم .
5- ولشعورنا بالتقصير في محبة النبي صلى الله عليه وسلم ، فأردت أن أبين أين نحن من محبة النبي صلى الله عليه وسلم .

*وهذه أهم عناوين الموضوع :
1- مفهوم المحبة
2- حكم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم
3- محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم
4- علامات محبة النبي صلى الله عليه وسلم
5- ثمرات محبة النبي صلى الله عليه وسلم
6- أسباب تقوية محبة النبي صلى الله عليه وسلم
7- محبة الرسول بين الاتباع والابتداع ومسألة الغلو فيه
8- أين نحن من محبة الرسول واتّباعه

1- مفهوم المحبة : في اللغة : المحبة اسم للحب وهو صفاء المودة وميل القلب
ومحبة الرسول معناها : أن يميل قلب المسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث يؤثره على كل محبوب من نفسٍ وولدٍ ووالدٍ والناس أجمعين ، وهذه المحبة لرسول الله تربط المسلم به وتجعل قلبه وهمّه وإرادته متوجهةً لتحصيل ما يُحبه الله ورسوله من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة .

2- حكم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم : ان محبته أصلٌ من أصول الإيمان وواجب من الواجبات الشرعية كما أن بغضه ناقضٌ من نواقض الإيمان الاعتقادية . وتتفاوت درجة الشعور بهذا الحب تبعاً لقوة الإيمان أو ضعفه ، وكمال الحب من كمال الإيمان ، ونقص الحب من نقص الإيمان ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "" لا يؤمن عبدٌ حتى أكونَ أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين "" رواه مسلم عن أنس(69) وهذا الحديث من أوضح الأدلة على وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه لا يكمُل الإيمان إلا به.وعند البخاري(6632) عن عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال: كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب ، فقال عمر: يا رسول الله لأنت أحبُ إليّ من كل شئ إلا من نفسي ، فقال له النبي " لا،والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك " فقال له عمر : فإنه الان ، والله لأنت أحب إليّ من نفسي ،فقال النبي"" الان يا عمر"" فتح(11/523) وهذا الحديث يدل على أنه لا يبلغ المسلم حقيقة الإيمان حتى يكون الرسول أحب إليه من نفسه .

3- ثمرات محبة الرسول صلى الله عليه وسلم : منها:
1- الشعور بحلاوة الإيمان ولذة الطاعة : ففي الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال"" ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحبُ إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار "" (خ16/م43) قال النووي رحمه الله ( حلاوة الإيمان أي استلذاذ الطاعات وتحمل  المشاق في الدين )
2- مرافقته في الآخرة : روى مسلم عن أنسٍ قال : جاء رجلٌ إلى رسول الله فقال يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: وما أعددت لها؟ فقال: حب الله ورسوله ، قال:"" فإنك مع من أحببت "" قال أنس : فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكرٍ وعمر ، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم . (خ6168/م 2639) قال الحسن البصري ( أنه من أحب قوماً اتبع آثارهم ، ولن تلحق بالأبرار حتى تأخذ بهديهم وتقتدي بسنتهم وتأخذ طريقهم وإن كنت مقصراً في العمل فإنما ملاك الأمر أن تكون على استقامةٍ ) استنشاق نسيم الأُنس لابن رجب صـ87

4- أسباب زيادة محبة النبي صلى الله عليه وسلم : يرتبط الحب في القلب بما يحركه من أسباب ودواعي ، ومع وجود هذه الأسباب يزداد الحب ويقوى حتى يصل إلى مرتبة الكمال .
 وأهم الأسباب لزيادة حبه صلى الله عليه وسلم
1- معرفة خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته ومنها :
أ- أن الله عز وجل أحبه واختاره من خلقه ، فحب ما يُحب الله من لوازم محبته .
ب- كمال رأفته ورحمته بأمته وحرصه على هدايتها وانقاذها من الهلكة ، حتى قال الله عنه ) حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم( التوبة128 ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قوله تعالى في عيسى عليه السلام ) إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم( فرفع يديه وقال "" اللهم أمتي أمتي "" وبكى ، فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك ) مسلم(1/191) . وبوّب عليه النووي بقوله ( باب دعاء النبي لأمته وبكائه شفقةً عليهم ).
ج- ومن صفاته : كمال نصحه لأمته وهدايته لها وإحسانه إليها لأنه صلى الله عليه وسلم دلَّ هذه الأمة على كل خير يُقربها إلى ربها وحذرها من كل شر يجلب لها الذل والخِزي في الدنيا والآخرة .
2- ومن أسباب زيادة المحبة : تذكُرُه ومعرفة أحواله صلى الله عليه وسلم : فإذا أراد المسلم أم يزداد حبه لرسول الله فلابد له من معرفته ومعرفة جوانب شخصيته وأخلاقه وذلك بمطالعة سيرته وشمائله وأعماله وسننه والقراءة لكتب الحديث وحضور مجالس أهل الحديث ومصاحبتهم .
3- الوقوف على هديه صلى الله عليه وسلم والاشتغال بالسنة قولاً وعملاً ودعوةً: فإذا جعل المسلم رسوله أمامه في كل أمرٍ يقوم به من أمور الدين وتمسك بهديه وسنته ، كلما ازداد حبه له صلى الله عليه وسلم
4- ومن أهم أسباب زيادة المحبة: كثرة الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم . قال تعالى) يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما(  الأحزاب(56) والصلاة عليه واجبة عند ذكره ، على الأرجح
5- ومن أسباب زيادة محبة النبي : طلب العلم الشرعي والتفقه في دين الله تعالى وذلك بدراسة القرآن وعلومه والحديث وعلومه ، وكل علمٍ يخدمهما .

5- مظاهر وعلامات محبة النبي صلى الله عليه وسلم : حب النبي صلى الله عليه وسلم  محدد بعلامات تؤكد صدقه، وآثار تظهر على من اتصف به ، وبينات يُظهرها المدّعي حتى يتميز الصادق من الكاذب  وأهم هذه العلامات والآثار هي:
1- امتثال أوامره واجتناب نواهيه صلى الله عليه وسلم : وهذا هو أقوى شاهد على صدق الحب وإلا تكون الدعوى كاذبةً . قال القاضي عياض رحمه الله ( فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم من تظهر علامات ذلك عليه وأولها الاقتداء به واستعمال سنته واتباع أقواله وأفعاله والتأدب بآدابه في عُسره ويسره ) الشفا(2/571) فأين نحن من تنفيذ أوامره واجتناب نواهيه وهو القائل صلى الله عليه وسلم "" ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم"" متفق عليه، فتح(13/219) م(1337)
2- اتباع سنته صلى الله عليه وسلم . قال تعالى) لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ( الأحزاب(21)
3- التحاكم إلى شريعته في جميع شؤون الحياة . قال تعالى ) فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ( النساء(65)
4- الشوق إلى معرفة شريعته بطلب العلم النافع من الكتاب والسنة .
5- محبة من أحب وعداوة من عادى ، وخاصةً محبة قرابته وأزواجه وأصحابه .
6- نصر سنته والذّب عن شريعته : قال القاضي عياض(ومن محبته نُصرة سنته والذّب عن شريعته) شرح النووي لمسلم(2/16)         
7- الصلاة والسلام عليه عند ذكره صلى الله عليه وسلم .
8- تعظيمه وتوقيره والأدب معه صلى الله عليه وسلم : وأساس التعظيم له هو تصديقه وطاعته والتأدب معه ، فمن أخلّ بذلك لم يُعظمه ، والإخلال يأتي من أمرين أولهما الجفاء والتفريط في حقوقه كالطعن في صدقه وأمانته وعدم التأدب مع سنته وترك الصلاة والسلام عليه حين يُذكر والاستهانة بهديه وسنته قلة المبالاة بها وعدم مذاكرة سنته صلى الله عليه وسلم . والأمر الآخر الذي يأتي منه الإخلال بتعظيمه : الغلو فيه ورفعه فوق مرتبته كالاعتقاد أنه يعلم الغيب مطلقاً أو أن وجوده سابق لهذا العالم وأنّ من نوره خُلق الكون كله ، إلى غير ذلك من الاعتقادات الباطلة التي لم ترد في كتابٍ ولا في سنة .
9- ومن علامات حبه صلى الله عليه وسلم : النصيحة له : وفي الحديث الصحيح " الدين النصيحة ، قلنا لمن يا رسول الله؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم "" متفق عليه .
 قال النووي رحمه الله ( وأما النصيحة لرسول الله فتصديقه على الرسالة والإيمان بجميع ما جاء به وطاعته في أمره ونهيه ونُصرته ومعاداةُ من عاداه وموالاة من والاه وإحياء طريقته وسنته وبث دعوته ونشر شريعته والدعوة إليها والتأدب بآدابه ومحبة أهل بيته وأصحابه ، ونحو ذلك ) شرح  صحيح مسلم(1/38)
10- ومن مظاهر محبته : كثرة تذكره وتمني رؤيته والشوق إلى لقائه : في صحيح مسلم (2178)  عن أبي هريرة أن رسول الله قال "" مِن أشدّ أمتي لي حباً ناسٌ يكونون بعدي يَودُّ أحدهم لو رآني  بأهله وماله "" فمن ظهرت عليه هذه العلامات والآثار فهو المحب الصادق .

6- محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم : يُعِّبر عنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله عندما سُئل: كيف كان حبكم لرسول الله؟ قال( كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ ) فكيف كان حبهم رضي الله عنهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم؟
1- أبو بكر الصديق رضي الله عنه : في صحيح البخاري عن عائشة قالت( بينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة ، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً في ساعةٍ لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر : فداءٌ له أبي وأمي ، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمرٌ ) قالت عائشة : فجاء رسول الله فاستأذن فأذن له فدخل ، فقال أبي بكر : أخْرِج من عندك ، فقال أبو بكر : إنما هم أهلُك بأبي أنت يا رسول الله ، قال : فإني قد أُذِن لي في الخروج ، فقال أبو بكر : الصحابة بأبي أنت يا رسول الله ، قال رسول الله : نعم ) خ(3905) فتح(7/231) قال ابن حجر ( زاد ابن اسحاق في روايته : قالت عائشة: فرأيت أبا بكر يبكي وما كنت أحسب أن رجلاً يبكي من الفرح ) وعند البخاري عن أبي سعيد قال ( خطب رسول الله الناس وقال"" إن الله خيَّر عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله "" قال : فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه ، فكان رسول الله هو المُخير وكان أبو بكر أعلمنا ) خ(3654) فتح(7/12) وفي روايةٍ عن معاوية ( قلم يلقنها إلا أبو بكر فبكى وقال : نفديك بآبائنا وأمهاتنا ) المجمع (9/42) وإسناده حسن . ولما حضرت أبا بكر الوفاة قال( أيُ يومٍ هذا؟  قالوا : يوم الاثنين ، قال : فإن متُ من ليلتي فلا تنتظروا بي إلى الغد فإن أحب الأيام والليالي إليّ أقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ) رواه أحمد عن عائشة وصححه أحمد شاكر ، المسند(1/173)
2- أما عمر بن الخطاب: فقد روى البخاري قصة استئذانه من عائشة في أن يُدفن مع رسول الله وأبي بكر في غرفتها فقالت( كنت أُريده لنفسي ولأُوثِرنّه به اليوم على نفسي) ففرح عمر وقال(الحمد لله ، ما كان من شئ أهم إليّ من ذلك فإذا أنا قضيت فاحملوني ، ثم سلم فقل: يستأذن عمر ، فإن أذنت لي فأدخلوني وإن ردتني رُدوني إلى مقابر المسلمين ) خ(3700) فتح(7/60)
3- الأنصار يفرحون بمقدمه صلى الله عليه وسلم في الهجرة : في صحيح عن عروة بن الزبير (وسمع المسلمون مخرج رسول الله من مكة فكانوا يغدون كلّ غداةٍ إلى الحرّة فينتظرونه حتى يردهم حرُّ الظهيرة ) خ(3906) وفي مسند أحمد أنهم كانوا زهاء خمسمائة من الأنصار ـ الفتح الرباني(20/292) وقول أنس ( فما رأيت يوماً قط أنور ولا أحسن من يوم دخل رسول الله وأبو بكر المدينة ) أحمد الفتح(20/290) ويقول البراءُ بن عازب(فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله)خ(3925)
4- في صحيح سنن النسائي(2951): إثنا عشر صحابياً يفدون رسول الله في غزوة أحد فيموت الأحد عشر ويبقى طلحة بن عبيد الله ،وتُقطّع أصابعه ثم يرد الله المشركين. وعن قيس قال( رأيت يدَ طلحةَ شَلاّء وقي بها النبي يوم أحد) خ(4063) وكان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد بكى ثم قال( ذلك كله يوم  طلحة) فتح الباري(7/82) وفي الصحيحين قال أنس عن يوم أحد( ويشرفُ نبي الله ينظر إلى القوم فيقول أبو طلحة: يا نبي الله بأبي أنت وأمي لا تُشرِف لا يُصبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك)
5- يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه ( ما كان أحد أحب إليّ من رسول الله ولا أجلّ في عيني  منه ، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له ، ولو سُئلت ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه صلى الله عليه وسلم )
6- روى مسلم عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال ( كنت أبيت مع رسول الله فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: سَلْ ، فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة ، قال : أَوَ غير ذلك ، قلت : هو ذاك ، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود ) مسلم (489)
7- قالت عائشة رضي الله عنها( جاء رجل إلى النبي فقال : يا رسول الله إنك لأحب إليّ من نفسي  وإنك لأحب إليّ من ولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك ، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رُفعت مع النبيين وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك ) فلم يرد عليه النبي حتى نزل جبريل بالآية ) ومن يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم  من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين( النساء(69) ) رواه الطبراني وأبو نعيم ـ مجمع الزوائد(7/7)

7- محبة الرسول بين الاتباع والابتداع : علمنا مما سبق أن من أهم علامات حبه صلى الله عليه وسلم إتباعه في أمره ونهيه ، وأن من أهم نواقض المحبة الإبتداع بدعوى محبته صلى الله عليه وسلم ، فما الفرق بين الاتباع والإبتداع؟
1- مفهوم الاتباع :
* اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هو الاقتداء به في أقواله وأفعاله على الوجه الذي جاء به .
* والله عز وجلّ أوجب على العباد اتباع أمره وحذرهم من مخالفته وعصيانه ، قال تعالى ) يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون(الأنفال(20) وقال تعالى) وماآتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)  الحشر(7)
فتبين لنا أن اتباع الرسول أمر واجب وفرض عينٍ على الأمة كلها .
* أما مظاهر الاتباع فهي نفسها مظاهر وعلامات حبه صلى الله عليه وسلم .
2- مفهوم الإبتداع : بدعوى محبة الرسول ، وسبب الابتداع هو الغلو في رسول الله ، فما هو الغلو مع ذكر أمثلة عليه؟ وما هي أنواعه ؟ وما هي آثار الغلو في الرسول على الاعتقاد والأعمال؟ وما  هو حكم الغلو في رسول الله ؟ وما هي البدع التي ظهرت بدعوى محبة الرسول ؟ وما هي آثار الابتداع بوجه عام على المسلمين؟
* أما الغلو : فيطلق في اللغة على مجاوزة الشيء حدّه الذي وضع له ، ويطلق في الشرع على مجاوزة حدود الشريعة عملاً واعتقاداً . والإسلام حرّم الغلو ونهى عنه : قال تعالى   ) لا تغلو في دينكم( النساء(171) والمائدة(77) قال القرطبي في تفسيرها ( نهى عن الغلو ، والغلو التجاوز في الحد ، ومنه غلا السعر يغلو غلاءً ، ويعني بذلك فيما ذكره المفسرون غلو اليهود في عيسى حتى قذفوا  مريم ، وغلو النصارى فيه حتى جعلوه رباً ) الجامع(6/21)  قال ابن تيمية (وقوله : إياكم والغلو في الدين ، عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال ) الإقتضاء(1/289)
  وقد وردت في الشرع ألفاظ تقارب الغلو في معناه مثل التشدد والتشديد والتعمق والتنطع والتكلف ، وكلها مرادفة للغلو وهي بمعنى مجاوزة الحد بالزيادة على المشروع، فمثلاً تعظيم الرسول مشروع طالما كان ذلك في حدود بشريته فإذا تجاوزنا بتعظيمه حدود بشريته صار غلواً ممنوعاً .
*والغلو : منه ما يكون في الاعتقاد ومنه ما يكون في العمل .
أ- الغلو في الاعتقاد : ويتمثل في مجاوزة حدود الاعتقاد الصحيح إلى الانحراف ، ونجد ذلك في آراء الفرق الكلامية التي فارقت أهل السنة والجماعة بنوع الاعتقاد ، ففي صفات الله تعالى نجد النُفاة والمؤولة غَلَو في تنزيه الله حتى عطلوه عن صفات الكمال ووصفوه بصفات المعدوم . ومن الغلو  في الاعتقاد غلو النصارى في عيسى وغلو بعض المتصوفة في الرسول صلى الله عليه وسلم حيث ادّعوا أنه مخلوق من نور وأنه يتصرف في الأكوان ، وغلوهم في الصالحين ومشايخ الصوفية بإدعاء العصمة لهم والاستغاثة بهم ، وغلو الشيعة في عليّ رضي الله عنه ، فطائفة ادعت أنه إلــه وطوائف على أنه معصوم وهكذا .
ب- الغلو في العمل : ويقصد به ما كان واقعاً في دائرة الأحكام الشرعية الخمسة ، فمن جعل المندوب بمنزلة الواجب فقد غلا في الدين وجاوز الحد فيه ، ومن جعل المكروه بمنزلة الحرام أو جعل المباح مكروهاً أو محرماً فقد غلا ، فمن أوجب على نفسه قيام الليل كله فقد غلا ومن حرّم النكاح وأكل الطيبات زهداً وتعبداً فقد غلا ، ومن زاد على الثلاث في الوضوء فقد غلا ، وهكذا
انظر إلى كلام ابن تيمية في الاقتضاء(1/283) وكذك ابن القيم في مدارج السالكين(2/496)

* وأما أسباب الغلو فهي :
1- الجهل بالدين والجهل بحدود الشريعة التي يجب على المكلف أن يقف عندها ولا يتعداها ، والقصور في فهم مقاصد الشريعة من التيسير ورفع الحرج عن المكلفين .
2- اتباع الهوى وتحكيم العقل كما وقع بين طوائف المتكلمين والصوفية .
3- الاعتماد على الأحاديث الواهية والموضوعة التي وضعها الزنادقة والجهلة من الفرق الضالة .
* ومن أمثلة الغلو في الاعتقاد :
1- الغلو في الرسل عند اليهود والنصارى : فرفعوا الأنبياء فوق منزلتهم ووصفوهم بصفات  الألوهية ، أو يوصف النبي بأنه ابن الله ، ونهاهم الله عن الغلو هذا ، وفي ذلك تحذير لنا نحن المسلمين عن أن نسلك مسالكهم في الغلو ، وكذلك نهى الرسول أمته عن المبالغة في مدحه فقال "" لا تُطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله "" البخاري(4/204) ، ولكن طوائف من هذه الأمة وقعت في الغلو فيه .
2- الغلو في هذه الأمة : ففي هذه الأمة من غلا في عليّ وذريته وأنهم معصومون ، بل منهم من ادعى بأنه إله . ومن هذه الأمة من غلا في الرسول والأولياء من بعده كالغلاة من الصوفية الذين قالوا بالحقيقة المحمدية وهي أن محمداً خُلق من نورٍ قبل الكون ولأجله خلق الكون ، وأنه يعلم الغيب المطلق ، وهكذا .
*أما عن آثار الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم على الاعتقاد والأعمال والسلوك : فقد كان للغلو أكبر الأثر في إفساد حقائق الدين وتشويه معالمه :
أ- ففي الاعتقاد :
1- أدّى الغلو إلى الشرك واعتقاد أن محمداً شريك مع الله في الخلق والتدبير والألوهية وكشف الضر وجلب النفع وعلم الغيب وغيرها حتى قال البوصيري:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به

سواك عند حدوث الحادث العممِ
فإن من جُودك الدنيا وضرتها

ومن علومك علمَ اللوح والقلم

2- كذلك أدى الغلو بأصحابه إلى أن يعتقدوا بأن الرسول في كل العصور واحد هو محمد ، وهذا مخالف لاعتقاد عامة المسلمين وكذلك خالف الغلاة عقيدة المسلمين في كثير من العقائد منها أن أول ما خلق الله هو محمد ومنه خُلق كل شئ وأنه قرأ القرآن قبل جبريل وأنه حي يرى يقظةً لا مناماً وهذه العقائد مخالفة للنصوص الصريحة .
3- ومن آثار الغلو : فساد مفهوم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم : فصار معنى المحبة عند غلاة الصوفية عبادته ودعائه وتأليف الصلوات المبتدعة وعمل الموالد وإنشاد القصائد الشركية في الاستغاثة به وصرف وجوه العبادة إليه .
هذه بعض الآثار للغلو في رسول الله في إفساد عقيدة المسلمين في الله ورسوله .
ب ـ أما آثار الغلو في الرسول على العبادات الشرعية : فقد أدى الغلو إلى الانحراف بالعبادات عن وضعها الشرعي وابتداع عبادات ما أنزل الله بها من سلطان مثل الإيمان بالحقيقة المحمدية وقضاء الأعمار في الخُلوات والأذكار المبتدعة .
'  فما حكم الإسلام في الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم :
   الله عز وجل نهى عن الغلو بأنواعه ، والنبي حذر الأمة ونهى عن المبالغة في مدحه حتى لا يُفضي ذلك إلى الغلو فيه كما غلت النصارى في عيسى بن مريم . وعن أبي داود عن عبد الله بن الشخيّر قال ( انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله فقلنا : أنت سيدنا ، فقال : السيد الله تبارك وتعالى ، قلنا : وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً ، فقال : قولوا بقولكم أو ببعض قولكم ولا يستجرِينكم الشيطان ) صحيح الجامع الصغير(3/226) فكرِه رسول الله من أصحابه أن يواجهوه بالمدح لِئلا يُفضي ذلك إلى الغلو . وقد أنكر رسول الله على من قال له : ما شاء الله وشئت ، فقال له"" أجعلتني والله عدلاً ، بل ما شاء الله وحده "" كما أنكر على معاذ حينما همّ أن يسجد له ـ أحمد في مسنده .
كل هذه الأدلة وغيرها تدل على حرمة الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومن الغلو ما هو من الكفر الصريح كقول صاحب كتاب النفحات الأقدسية صـ9 ( فشأن محمدٍ في جميع تصرفاته هو شأن الله تعالى)
'  وأما البدع التي ظهرت بدعوى محبة الرسول: لقد كان من أكبر آثار الغلو في الرسول ظهور البدع في العقائد والعبادات والتي أظهرها المبتدعة بدعوى حبهم للرسول فجعلوا المحبة مبرراً لهم في صنيعهم وكلما مضى الزمان ازدادت البدع ، وهذه نماذج منها :
1- إدعاء الصوفية أنهم يرون الرسول صلى الله عليه وسلم يقظةَ " فهم يعتقدون بحياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته حياةً تامةً لها كل خصائص الأحياء ، ولذلك قالوا بأنهم يرونه يقظةً ويجتمعون به ويرشدهم في طريقتهم ، وأنه يحضر حضراتهم وموالدهم . وعلى هذه البدعة أسست طرق صوفية كثيرة سُميت بالطرق المحمدية مثل الطريقة التيجانية والطريقة الأحمدية وغيرها . وهذه البدعة مخالفة للنصوص وإجماع الأمة على وفاته صلى الله عليه وسلم
2- التوسل غير المشروع بالنبي صلى الله عليه وسلم  وبجاهه : ويُدخلون في هذا التوسل الاستعانة به وطلب الحاجات منه ، فإذا أثبتوا التوسل بالنبي فلا مانع أن يتعدى ذلك إلى الأولياء من بعده . والحقيقة أن التوسل بالنبي ثلاثة أقسام :
أ- توسل بالإيمان برسول الله وطاعته ، وهذا فرض عين على كل مسلم والإيمان عمل صالح .
ب- توسل بدعائه وشفاعته في حياته كما كان يفعل الصحابة معه من طلب الدعاء منه والاستغفار  لهم وطلب السقيا ، وهذا النوع لا يجوز إلا في حياته لعدم وجود دليل عليه ولا فعل صحابي ولا إمام
ج- توسل بذاته وسؤال الله بجاه نبيه ، وهذا توسل غير مشروع ولم ترد به سنة صحيحة ولا فعل صحابي لا في حياته صلى الله عليه وسلم ولا بعد موته .
وهذا هو التوسل المقصود عند غالب المتأخرين من الصوفيه والمقلدة لهم .
3- بدع متعلقة بزيارة قبره صلى الله عليه وسلم  المشروع في زيارة قبره أن يأتي المسلم إلى المسجد النبوي ويصلي فيه ثم يسلم على رسول الله وأبي بكر وعمر ، كما كان يفعل عبد الله بن عمر إذا قدم من سفر . ولكن الناس ابتدعوا في باب زيارته بدعاً كثيرة منها :
أ- اعتقاد أن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم واجبةً بل انها مكملة لمناسك الحج ، وهذا الاعتقاد بسبب الجهل بأحكام الدين وكذلك الاعتماد على الأحاديث الضعيفة والموضوعه .
ب- الدخول إلى المسجد النبوي كهيئة المستأذن من الرسول للدخول عليه .
ج- إلتزام كيفية معينة في زيارة قبره من حيث الوقوف والسلام والدعاء ، فيقف كهيئة المصلي ويدعو مستقبلاً القبر وليس القبلة ورفع الصوت بذلك .
د- التمسح بالحجرة وتقبيل شباكها واستلامه والطواف بها .
هـ- اعتقاد الزائر أن الرسول يعلم خواطره ونياته وهذا من الغيب الذي استأثر الله بعلمه .
و- اتخاذ قبره عيداً : أي يعتاد التردد عليه والازدحام عنده أو تخصيص وقت معين للزيارة .
ز- الاعتقاد بأن النظر إلى الحجرة الشريفة عبادة .
ح- الاستغاثة بالرسول وبث الشكوى إليه .
4- ومن البدع بسبب الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم بدعة المولد في شهر ربيع الأول وجعله عبادة شرعية وقُربة إلى الله: ومنهم من يسميه عيداً ومعلوم أن الأعياد الشرعية يومان الفطر والأضحى . والسلف الصالح لم يفعلوا ذلك مع أنهم أشد الناس حباً لرسول الله ، وهم أعرف الناس بحقوقه ، وعمل المولد يتضمن أموراً منهياً عنها شرعاً كإنشاد القصائد الشركية والغلو فيه وتشويه صورة الدين بأعمال الخرافيين والدجالين. وهناك بدع أخرى بسبب الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم
وأخيــــرا : مما سبق علمنا وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم  وثمراتها ، وتعلمنا مفهوم المحبة وكيف  أحب الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستعرضنا علامات محبة النبي { وما هي أسباب تقوية هذه المحبة ، ورأينا الفرق بين الاتباع والابتداع في محبة النبي صلى الله عليه وسلم  وذكرنا  أن أهم أسباب الابتداع هو الغلو فيه صلى الله عليه وسلم ، وما هي آثاره وما هو حكمه .
' فأين نحن من إيمانه وعبادته وأخلاقه صلى الله عليه وسلم ؟
'  هل علّمنا أهلينا حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
'  وهل علمناهم سنته وهديه وشمائله صلى الله عليه وسلم؟
'  وهل امتثلنا أوامره واجتنبنا نواهيه ؟
'  هل تحاكمنا إليه في منازعاتنا وخلافاتنا ومشاكلنا؟
'  هل نصرنا سنته وعملنا بها وعلمناها للناس؟

أسأل الله العظيم أن يرزقنا حبه وحب نبيه صلى الله عليه وسلم

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .