إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئاتِ
أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهدُ أن لا إله إلاّ
الله وحده لا شرك له وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله أما بعد :-
مقدمـة:
فإنَ من مقوّمات المجتمع
الإسلامي الأخوّة في الله تعالى ولذلك لمّا هاجر رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى
المدينة أقام الدولة الإسلامية على أسس هي:
1- بناء المسجد 2- المؤاخاة بين المسلمين
3-كتابة الوثيقة التي حددت نظام حياة المسلمين
وعلاقتهم مع غيرهم.
^
نجد أن رسول الله صلي الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار
على الحق والمواساة والموالاة وعلى أن يتوارثوا بينهم بعد الممات، وظلت حقوق هذا الإخاء
مقدّمة على حقوق القرابة إلى موقعة بدر الكبرى حيث نزل في أعقابه قولُه تعالى (وأولو الأرحام بعضُهم أَوْلَى ببعضٍ في كتاب الله إنّ الله بكل
شيئٍ عليم) فنَسخت هذه الآية حق الميراث
فقط.
^
روى البخاري عن ابن عباس قال: (كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث
المهاجريُّ الأنصاريَّ دون ذوي رحِمِهِ، للأخوَّةِ التي آخى النبيُّ صلي الله عليه
وسلم بينهم فلما نزلت (ولكلٍّ جعلنا موالي) نسخت، وقد
ذهب الميراث) كتاب التفسير 5/ 178 من صحيح البخاري.
^
وحسبنا دليلاً على أخوّة الصحابة ما قام به سعدُ بن الربيع الذي كانَ
قد آخى الرسولُ صلي الله عليه وسلم بينه وبين عبد الرحمن بن عوف، إذ عرض على عبد الرحمن
أن يشركه في بيته وأهله وماله في قسمةٍ متساوية، ولكن عبد الرحمن شكره وطلب منه أن
يدُلَّهُ على السوق ليتاجر فيه.
* فضائـُل الأُخُـوَّة:
(1) الأخوّةُ من مستلزمات الإيمان: قال تعالى (إنّما المؤمنون أخوة) سورة الحجرات آية (10)، أي ليس المؤمنون
إلا أخوة. وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم (المسلمُ
أخو المسلم ...) متفق عليه.
(2) محبّةُ الأخ لأخيه من شعب الإيمان: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم
(من سرَّهُ أن يجدَ حلاوة الإيمان فليحبَّ المرء لا يحبّهُ
إلا لله عز وجل) أحمد والحاكم وحسنه في صحيح الجامع عن أبي هريرة.
(3) محبّة الأخ لأخيه تجعلهما من السبعة الذي يظلهم اللهُ في ظله كما
في الحديث المتفق عليه.
(4) قال عمر بن الخطاب (ما أُعطي عبدٌ بعد الإسلام خيراً من أخ صالح،
فإذا رأى أحدُكم وُدّاً من أخيه فليتمسَّك به).
(5) وقال مالك بنُ دينار (لم يبق من روح الدنيا إلاّ ثلاثٌ: لقاءُ الأخوان،
والتهجُّد بالقرآن، وبيت خالٍ يّذكرُ اللهُ فيه).
* صفاتُ الأخ في الله:
قال عليه الصلاة والسلام
(الرجلُ على دين خليله فلينظر أحدُكم من يخالل) الحاكم وأحمد وأبو داود والترمذي وهو في
الصحيحة رقم (927). وأهم هذه الصفات:
1- أن يكون مسلماً من أهل السنّة والجماعة لقوله (لا تصاحب إلاّ مؤمناً...) ففي الحديث المتفق عليه (إنّ آل أبي فلان ليسوا بأوليائي إنّما وليّيَ اللهُ وصالحُ
المؤمنين)
2- أن يكون متخلّقاً بأخلاق الإسلام محافظاً على مكارم الأخلاق، لأن
الرجلَ على دين خليله.
3- أن لا يكون فاسقاً مجاهراً بالكبائر فإنّه يُعدي، وفي الحديث المتفق
عليه (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل حامل المسك
ونافخ الكير ...)
4- أن لا يكون حريصاً على الدنيا متمسّكاً بها مؤثراً لها عن الآخرة.
ورغم ذلك يقول سعيد بن المسيّب (أنه ليس من شريفٍ ولا عالمٍ ولا ذي فضلٍ
إلاّ وفيه عيبٌ، ومن كان فضلُه أكثرَ من نقصِهِ وهَبَ نقصَهُ لفضله) البداية والنهاية
(9/100) لابن كثير.
* آفـات الأُخُـوَّة:
ممّا يمزّقُ أواصَر الأُخوّة:
1) الأثرةُ – الأنانيةُ وحبُّ
الذّاتِ، يأخذُ ولا يعطي.
2) الاستهزاءُ والسخريّةُ والانتقاصُ
من الآخرين.
3) الغيبةُ والكذبُ والنميمةُ
.
4) التفاخرُ بالأنساب.
5) عدمُ الاحتكام إلى شرع الله
في العلاقات مع الآخرين مثل الحبِّ في الله والبغضِ في الله ....
6) تركُ بعض ما أنزل الله: يقول
شيخ الإسلام (إذا ترك الناسُ بعضَ ما أنزلَ الله وقعت بينهم العداوة والبغضاءُ إذ لم
يبق هنا حقٌّ جامعٌ يشتركون فيه بل تقطعوا أمرهم بينهم زُبُراً كلُّ حزبٍ بما لديهم
فرحون).
7) ارتكاب المعاصي: ففي الحديث
(ما توادَّ اثنان في الله فيفرّق بينهما إلاّ بذنب يُحدثُهُ أحدُهما) البخاري في الأدب
المفرد عن أنس وصححه الألباني في الجامع الصغير رقم (5479).
8) التكلُّف: المجاملةُ بما فوق الطاقة والتي تؤدي إلى الحرج .
* حقـوقُ الأُخُـوَّة:
بيَّن لنا رسول الله صلي
الله عليه وسلم كثيراً منها في النصوص التالية:
الحديث الأول: قال رسولُ الله صلي الله عليه وسلم (أحّبُّ الناس إلى الله تعالى أنفعُهُم للناس وأحبُّ الأعمال
إلى الله عزّ وجلَّ سرورٌ تُدخلُه على مسلم، أو تكشفُ عنه كربةً، أو تفضي عنه ديناً
، أو تطرُدْ عنه جوعاً، ولئن أمشي مع أخٍ في حاجةٍ أحبُّ إليَّ من اعتكف في هذا المسجد
شهراً، ومن كفّ غضبَهُ ستر اللهُ عورتَه. ومن كظم غيظهُ ولو شاء أن يمضيَهُ أمضاهُ،
ملأ اللهُ قلبَهُ رجاءً يوم القيامة. ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأَ له أَثْبَتَ
اللهُ قدمه يوم تزول الأقدام) أخرجه الطبرانيُّ وابنُ عساكرٍ وغيرُهما
وحسَّنَهُ الألباني في الصحيحة رقم 906.
الحديث الثاني: وروى الشيخانِ عن أبن عمر مرفوعاً (المسلمُ أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمُه، ومن كانَ في حاجة
أخيه كانَ الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربةً فرّج اللهُ عنه كربةً من كربات القيامة،
ومن ستر مسلماً سترهُ اللهُ يوم القيامة).
وعند مسلم (واللهُ في عونِ العبد ما كان
العبدُ في عون أخيه) مختصر مسلم 1888 قال ابنُ حجر (وفي الحديث حضٌ على التعاونِ وحسنِ
التعاشر والألفة).
الحديث الثالث: روى البخاري حديث 2446 : عن أبي موسى قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم) (المؤمن
للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضاً وشبّك بين أصابعه).
ويقول أبو موسى (وكان النبيّ صلي الله عليه وسلم جالساً إذا جاءه رجلٌ
يسأل، أو طالبُ حاجة، أقبل علينا بوجهه فقال (اشفعوا فلتُؤجَروا).
قال ابنُ حجر (وفي الحديث الحضُّ على الخير بالفعل وبالتسبب إليه بكل وجه والشفاعةُ
إلى الكبير في كشف كربة ومعونةِ ضعيفِ) فتح (10/451).
وقال ابنُ بطال (والمعاونةُ في أمور الآخرة وكذا في الأمور المباحة من
الدنيا مندوب إليها).
الحديث الرابع: ويقول جابرٌ (ما سُئِلَ النبي عن شيئٍ قطُّ فقال: لا
) البخاري (10/455) حديث 6034 . وعن سهل بن ساعد قال (جاءت امرأة إلى النبيّ ببُردةٍ
فقالت (يا رسول الله أكسوك هذه ) فأخذها النبيُّ محتاجاً إليها فلبسها، فرآها عليه
رجلٌ من الصحابة فقال: يا رسول الله، ما أحسنَ هذه فاكسُنيها، فقال: نعم، فلمّا قام
النبيُّ صلي الله عليه وسلم لامَهُ أصحابُه فقالوا: ما أحسنتَ حين رأيتَ النبيَ (صلي
الله عليه وسلم) أخذها محتاجاً إليها ثمَّ سألتَهُ إياها وقد عرفت أنّهُ لا يُسألُ
شيئاً فيمنعه، فقال: رجوتُ بركَتَها حين لبسها النبيَ لعلِّي أُكفّنُ فيها) البخاري فتح 10/456 حديث 6036
الحديث الخامس: ويقول عليه الصلاة والسلام (أنصر
أخاك ظالماً أو مظلوماً ، قيل يا رسول الله هذا ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً قال:
تمنعه من الظلم) البخاري ومسلم وغيرهما.
الحديث السادس: ويقول عليه الصلاة والسلام (للمرء
المسلم على أخيه من المعروفِ ستٌّ: يُشمَّتُهُ إذا عطس، ويعوُدُه إذا مرض، وينصحه إذا
غاب، ويسلِّم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، ويتبعه إذا مات) رواه أحمد وصحّحه الألباني في الأرواء رقم
(2450).
الحديث السابع: ويقول عليه الصلاة والسلام (المؤمنُ
مرآةُ المؤمن والمؤمنُ أخو المؤمن ) أبو داود والبخاري في الأدب المفرد والطبراني
وهو في الصحيحة (926) وفي صحيح الجامع (6532).
الحديث الثامن: (إذا كنتُم ثلاثة فلا يتناجى
اثنان دون الآخَر حتى تختلطوا بالناس، من أجل ذلك يُحَزِنُهُ) متفق عليه – اللؤلؤ والمرجان (1410).
الحديث التاسع: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان
إلاَّ غُفر لهما قبل أن يتفَّرقا) أبو داود وأحمد والترمذي وابن ماجة وحسَّنه
الألباني في صحيح الجامع.
والحقوقُ كثيرةٌ فمنها:
(1) العفو عن الزلاّت والهفوات وستر العيوب والعثرات .
(2) النطقُ بما يحبُّ : قال عمُر بنُ الخطاب (ثلاثٌ يُصَفِّينَ ودَّ أخيكَ:
أن تُسلِّمَ عليه إذا لقيتَهُ وتُوسعَ له من المجلس وتدعوَهُ بأحبِّ الأسماءِ إليه
).
(3) المواساةُ بالمالِ حسبَ الاستطاعةِ (من
يسَّر على مُعسرٍ يسَّر اللهُ عليه في الدنيا والآخرة ) مسلم.
(4) الزيارةُ في الله: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم (ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنّة .. فذكر النبيَّ والشهيدَ
والصدّيقَ والرجلَ يزورُ أخاه في ناحية المصر في الله في الجنّة) صحيح الجامع الصغير.
(5) الدعاءُ له بظهرِ الغيبِ: ففي صحيح مسلم (دعوةُ الأخ لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملكٌ موكّل كلما دعا لأخيه
بخير قال الملكُ الموكّل به: آمين ولك بمثل) المختصر 1882.
(6) تركُ التكلُّفِ وقد قيل (من سقطت كُلْفَتُهُ دامت أُلفَتُهُ ومن خفَّتْ
مؤنتُهُ دامتْ مودَّتُهُ) ويقول جعفر الصادق (أثقلُ أخواني عليَّ من يتكلّفَ لي، وأتحفظُ
منه وأخفّهُمُ على قلبي مَنْ أكونُ معهُ كما أكونُ وحدي). وقال الأمامُ عليُّ (شرُّ
الأصدقاءِ من تكلّف لك وأحوجكَ إلى مداراة، وألجأك إلى اعتذار). وقال الفُضَيلُ بنُ
عياض (إنّما تقاطع الناسُ بالتكلُّف، يزور أحدُهُم أخاهُ فيتكلَّفُ له، فيقطعه ذلك
عنه) .
(7) الردُّ عن عرضه: ففي الحديث (من ردَّ
عن عرضِ أخيه ردَّ اللهُ عن وجهه النّارَ يوم القيامة) أحمد والترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع
(6138) . فإذا تغلغلت الأُخوَّةُ في النفوسِ،
غرست المحبَّةَ في قلوبنا التي أقلّ علاماتِها سلامةُ الصدر ، وأعلاها مرتبةُ
الإيثار.
الخاتمــة :- وأخـرج البيهقـيُّ في شُعَب الإيمان
عن سعيد بن المسيِّـب رحمه الله أنه قال: (كتب إليَّ بعضُ إخواني من أصحاب رسول الله
صلي الله عليه وسلم أن ضع أمرَ أخيك على أحسنِـه ما لم يأتكَ ما يغلبك، ولا تظنَّ بكلمةٍ
خرجت من امرئٍ مسلمٍ شراً وأنت تجدُ لها من الخيرِ محملاً، ومن عرَّض نفسَهُ للتّهم
فلا يلومنَّ إلاّ نفسَهُ ، ومن كتم سرَّهُ كانت الخِيَرةُ في يده، وما كافأتُ مَنْ
عصى اللهَ تعالى فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وعليك بإخوانِ الصدق فكن في اكتسابهم فإنَّهم
زينةٌ في الرخاء وعدّةٌ عند عظيم البلاء، ولا تتهاونُ بالحلفِ فيُهينك اللهُ تعالى،
ولا تسألنَّ عمَّا لم يكن حتى يكونُ، ولا تضعُ حرِّيتَك إلا عند من تشتهيه، وشاور في
أمرِكَ الذينَ يخشونَ ربَّهم بالغيب).
فهذه بعضُ فضـائل الأخـوّة وآفاتها وحقـوقها،
والحمد لله رب العالميــــن .