الخميس، 19 مارس 2015

أحكام العورات في الإسلام

    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ،و بعد :
& مقدّمــةٌ :
       لقد اهتم الإسلامُ اهتماماً بالغاً بقطع الطريقِ على الأسباب المؤديةِ إلي انتشار الفتن ،أو إلى بعث الشهواتِ الكامنةِ لا سيّما تلك الشهواتِ والفتنِ المتعلقةِ باختلاف الجنس ، فكان من أهم التشريعاتِ في هذا الباب الأمرُ بحفظ  العوراتِ من نظرِ من لا يحلّ له النظرُ إليها ، أو منَ النظر إلى ما لا يحلّ النظرُ إليه فَقد قال الله تعالي( قَلْ للمؤمنينَ يغُضُّوا من أبصارهم ويحفظُوا فروجَهم ذلك أزكي لهم إن الله خبيرٌ بما يصنعون. وقلْ للمؤمناتِ يغضُضنَ من أبصارِهِنَّ ويَحفظْنَ فُرُوجَهُنَّ ولا يُبدينَ زينتَهُنَّ إلاّ ظهَر منها )  النور (30) وعن  معاويةَ بنِ حيدةَ رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله ، عوراتنُا ما نأتي منها وما نذرُ ؟ قال : "" احفظ عورتَكَ إلاَّ من زوجتِك أو ما ملكتْ يمينكُ""  قيلَ: إذا كانَ القومُ بعضهُم في بعضٍ ؟ قال "" إن استطعتَ أن لا يريُنها أحدٌ فلا يَرينَّها قيل : إذا كانَ أحدُناَ خالياً ؟ قال""  اللهُ أحقُّ أن يُستحيا منه من الناس"" رواه أحمد والبخاريُّ معَّلقاً بالجزمِ وهو في صحيح الجامع الصغير للألباني برقم (203) وقال رسول الله "" لا ينظرُ الرجلُ إلى عورةِ الرجلِ ولا المرأةُ إلى عورةِ المرأةِ"" رواه مسلم وأبو داوود ، والحديثُ لم يفرقُ بين قريب أو بعيدٍ ، وبين أبٍ أو أخٍ أو أم أو أختٍ ، بل النصُّ عامٌّ يشمل الجميع ، فلا يجوزُ للرجلِ أن ينظر إلى عورةِ الرجلِ وعورةِ المرأةِ ولا يجوزُ للمرأةِ أن تنظر إلى عورة المرأةِ والرجل ، وهذا مجمعٌ عليه كما قال النووي في شرح مسلم 0 1/641) .
* ولأن كثيراً من الناسِ اليوم يجهلون غالبَ أحكامِ العورات ، ولخطورةِ هذا الموضوع ، كانَ لزاماً على طَلبةِ العلم وأهلِه بيانُ الأحكامِ الشرعيةُ للعوراتِ وفي هذا البحث المختصر نذكر بإذن الله تعالي معنى العورةِ والترغيبَ بسترِها ثم حدودَ العورةِ للرجل وللمرأةِ وللصغيرِ و للصغيرةِ ، ثم نختمُ بذكر بعض  المسائلِ الأخرى المتعلَّقةِ بهذا الموضوعِ .
1- معني العورةِ والترغيبُ بسترها : تطلقُ العورةُ في اللغةِ على معانٍ منها : الخللُ والسوأةُ والشيءُ المستقبحُ وما يحرُمُ كشفُه ، وسُمِّيت العورةُ بذلك لقُبح ظهورِها ولما يسببُّه كشفُها منِ إلحاقِ المذمَّةِ والعار بكاشفها. والعورةُ شرعاً ( هي كلُّ ما حرَّم الله تعالي كشفَهُ أمامَ من لا يحلُّ النظرُ إليه ).
* وجاء الإسلامُ وشَرَعَ وسائل من شأنها صيَانةُ العورات والحفاظ علِيها كانَ من أبرزها وجوبُ الاستئذانِ عند دخول البيوتِ وكذلك الأمرُ بغضَّ البصر للمؤمنين والمؤمناتِ ، وحرَّمت الشريعةُ أن يدخل أحدٌ على امرأةٍ ليس معها محرمٌ ففي الحديث المتفق عليه"" إيّاكمُ والدخولَ على النساءِ ، فقال رجلٌ من الأنصارِ : يا رسول الله أفرأيتَ الحمو ؟ قال : الحموُ الموتُ "" ولا شك أن اختَلاط  الرجِالِ بالنساءٍ والخلوةَ بالمرأةِ الأجنبيةِ من أعظم المفاسدِ على المجتمعاتِ فالإسلام أمر بحفظ العوراتِ ونهي عن النظرِ إليها لمن لا يحلّ له النظر.
2- حدودُ العورةِ للذكورِ والإناثِ : والعوراتُ تختلفُ من إنسانٍ لآخرَ ، فعورةُ الرجلِ تختلف عن عورة المرأة وعورةُ المرأةِ أمامَ المحارمِ تختلفُ عن عورتَها أمام الأجانبِ ، وعورةُ الصغيرةِ تختلفُ عن عورةِ الصغير ، وهكذا وسنتعرّفُ بإذنِ اللهِ تعالي على أحكامِ كلَّ حالةٍ من هذهِ الحالاتِ فيما يليِ :

× أولاً :عورةُ الرجلِ أمام الرجالِ والنّساءِ المحارم : والنساءُ المحارمُ من يحرُم على الرجلِ الزواجُ منهنّ حرمةً أبديةً مثل الأم والجدة والبنت والحفيدة والعمّة والخالة وغيرهن ، أختلف أهلُ العلم في هذه المسألةِ على قولين مشهورين : القول الأول :وهم أكثرُ الفقهاءِ أن عورة الرجل أمام الرجالِ والنساء المحارم ما بين السَّرةَ والركبةِ إلاّ أنّ الحنفيةَ قالوا : الركبةُ من العورةِ والقول الثاني : أن عورة الرجل أمام الرجال والنساءِ المحارم هي الفرجان ـ القُبُلُ والدُّبُرُ ـ وهو روايةٌ عن مالكٍ وأحمد وقال به داودُ وابنُ حزمِ ، والراجحُ هو القولُ الأول أن عورةَ الرجلِ أمام الرجالِ والنساءِ المحارم ما بين السَّرةِ والركبةِ لما يلي :
أ - أخرج البخاريُّ تعليقاً (1/371) عن ابَن عباسِ وجَرَهدٍ ومحمد بن جحش عن النبيَّ صلى الله عليه وسلم  أنه قال "" الفخذُ عورةٌ "" وهو في صحيح سنن أبي داوود (4013) وصحيح الجامع (4280) .
ب - روي أحمد وأبو داود بسند حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه مرفوعاً "" ما بين السُرِّةِ والركبةِ عورةٌ "" وهو في صحيح الجامع (5583) عن عبد الله بن جعفر .
والخلاصةُ أن عورةَ الرجل أمام الرجالِ والنساءِ المحارمِ هي ما بين السَّرةِ وفوقَ الركبة .وللمزيد من البحث راجع بدائع الصنائع(5/122) وروضة الطالبين (1/282) والمغني(1/578) والمجموع(3/168)

×ثانياً :عورةُ الرجلِ أما النساءِ الأجنبيات: أختلف العلماءُ في ذلك إلى ثلاثة أقوالٍ هي :
القول الأول : عورةُ الرجلِ أمام النساءِ الأجنبيات ما بين السُرَّةٍ والركبةِ وهو مذهبُ الحنفيةِ وأصحُّ الأوجه في مذهب الشافعية والروايةُ المعتمدةُ في مذهب الحنابلةِ .راجع ابن عابدين(6/371) والمغني(6/563)
القولُ الثاني :عورةُ الرجلِ أمام النساء الأجنبيات ما زاد على ما يبدو عند الخدمةِ من القدمين والرأس واليدِ ونحو ذلك ، وهو قولٌ في مذهب الحنفية ومذهبُ المالكيةِ ووجهٌ للشافعيةِ .راجع روضة الطالبين(7/25)
القولُ الثالثُ : عورةُ الرجلِ أمام النساء الأجنبيات ما زاد على الوجهِ والكفينِ وهو وجهٌ عند الشافعيةِ .
وبعد استعراضِ أدلّةِ هذه الأقوال ، ترجَّح القولُ الأولُ وهو أن عورةَ الرجلِ أمام النساء الأجنبياتِ كعورة الرجل أمام الرجالِ وهي ما بين السُرَّةِ والركبة لما يلي :
أ-ورد في الصحيحين من حديث عائشةَ قالت :لقد رأيتُ رسول الله يوماً على بابَ حجرتي ، والحبشةُ يلعبون في المسجد ، ورسولُ الله يسترني بردائه ، انظرُ إلى لَعبهمْ ) والذي يظهر أن عائشة نظرت إلى وجوههم وأيديهم وسيقانهم المكشوفةَ . راجع فتح الباري(1/549) وشرح النووي لمسلم(2/609)
ب-ولو مُنع النساءُ من النظرِ إلى ما زاد على ما بين السرَّةِ والركبةِ ، لوجب على الرجالِ الحجابُ كما وجب على النساءِ لئلا ينظرن إليهم (المغني 6/564)
ج - أنّ ما سوى ما بين السُرَّةِ والركبةِ ليس بعورةٌ منه في الصلاةِ ، فلا يكونُ عورةً في غيرها.
فترجح أن عورةً الرجل أمام النساء الأجنبيات هي ما بين السُرَّةِ والركبةِ

×ثالثاً:عورةُ المرأةِ الحرَّةِ أمامَ الرجالِ المحارمِ : المحارمُ همُ الذين يحرُمُ على المرأةِ الزواجُ منهم حرمةً أبديةً ، كالأُب والجدَّ والابنِ وابن البنتِ وابن الابنِ ، والأخ والعمِّ والخالِ ، سواءٌ كانَ من النسب أو من الرضاعةِ ، وكذلك أبُ الزوج وابنُ الزوجِ وغيرِهم .
وأختلفَ أهلُ العلم في مقدار عورةِ الحرَّةِ أمام الرجالِ المحارمِ إلى ثلاثة أقوالٍ :
القولُ الأول : يجوزُ للمرأةِ أن تكشفَ أمام محارمها ما يظهرُ غالباً من جسمها كالرقبةِ والرأسِ والذراعينِ والكفينِ والقدمين ، أما ما عدا ذلك ممَّا يُسترُ غالباً كالصدرِ والظهرِ والساقِ فليس لها كشفُه أمامهم ، وهذا مذهبُ الجمهور من الحنفية والمالكيةِ والحنابلةِ ووجه عند الشافعيةِ ، وهو الراجحُ كما سيأتي . راجع بدائع الصنائع(5/120) والشرح الصغير(1/402) وروضة الطالبين(7/24) والمغني(6/554)
القولُ الثاني : يجوزُ للمرأةِ أن تكشفَ أمام محارمها جميعَ جسدها عدا ما بين السرَّةِ و الركبةِ ، وهو المذهبُ عند الشافعية كما في روضةَ الطالبين للنووي (7/24) ومغني المحتاج (3/129) قالوا: قال تعالي) ولا يُبدينَ زينتهُنّ إلا لبعولتهنَّ أو آبائهنّ( سورة النور (31) فيجوزُ إبداءُ جسدِها للمحارمِ عدا ما بين السرَّةِ والركبةِ
القول الثالثُ:يجوزُ للمرأةِ أن تكشفَ أمام محارمها جميعَ جسدِها إلاّ القبلَ والدُّبُرَ وهو قولُ ابن حزم في المحلِّى (10/32) قال تعالي) ولا يُبدينَ زينتَهُنّ إلا لبعولتِهِنّ( قال: والزينةُ الباطنةُ ما عدا القُبلِ والدُّبُرِ فقط
والقول الأولُ هو الراجحُ لما يلي :
أ ـ قال تعالي ) ولا يبُدينَ زينتَهُنّ إلا لبعولتِهنَّ أو آبائهنَّ ( ، فالآيةُ دلّت على أنه لا بأس أن يرى المحارمُ الزينةَ الخفيةَ كالخلخالِ والقرطينِ والسوارين ممَّا يبدو عند المهنةِ والخدمةِ لكثرةِ المخالطةِ بينهم وقلةِ توقُّع الفتنةِ من قبلهم .راجع تفسير الطبري(18/92) وروح المعاني(18/142)
ب- ما رواه أبو داود وأصلُه في الصحيحين من حديث عائشةَ قالت (جاءت سهلةُ بنتُ سهيل فقالت : يا رسول الله ، إنّا كنَّا نرى سالماً ولداً وكانَ يأوي معي ومع أبي حذيفةَ في بيتٍ واحدٍ ويراني فُضلاً )  قال ابنُ قدامه ( هذا دليلٌ على أنه كانَ ينظر منها إلى ما يظهرُ غالباً فإنَّها قالت : يراني فُضلا ، ومعناهُ في ثياب البذلةِ التي لا تَستُرُ أطرافَها … )المغني (6/555 ) .
ت - أنَّ درءَ المفاسدِ مقدّمٌ على جلب المصالح إذا قلنا بتساوي المصالح والمفاسد هنا .

× رابعاً : عورةُ المرأةِ أمام الرجالِ الأجانب : أجمع العلماءُ على أنه يجبُ على المرأةِ ستَرُ ما عدا الوجه والكفين لأنه عورةٌ ، واختلفوا في الوجه والكفين مع اتفاقهم على أنه يجبُ سترُهما عند عدم أمنِ الفتنةِ وهذه أقوالهم في الوجه والكفين .
القول الأول :أن جميع بدنٍ المرأةِ عورةٌ وهو قولُ المالكيةِ في روايةٍ والشافعية في قولٍ وهو الصحيحُ من مذهب الحنابلةِ وقال به عددٌ من السلف ، راجع تفسير الطبري(18/92) والفروع(5/154) والمغني(6/558) وتفسير ابن كثير(3/453) واستدلوا بما يلي :
1- قولهُ تعالي)وإذا سألتموهنّ متاعاً فسألوهنّ من وراء حجابٍ(قالوا :فإذا كانَ لا يجوزُ أن تُسأل المرأةُ متاعاً وهي في بيتها إلاّ من وراء حجابٍ بحيث لا يراها السائلُ فخارجُ بيتها أولى أن لا يرى الرجالُ وجهها وكفيها . ونوقش هذا الاستدلالُ بأن الآيةَ في المرأةِ وهي في دارها إذْا أنها لا تكونُ عادةً متجلببةً ولا مختمرةً فيِها فلا تبرز للسائل ، فليس في الآية ما يدلّ على وجوب ستر الوجه والكفين .
2- قولُه تعالي ) يا أيها النبيُّ قل لأزواجك وبناتِكَ ونساءِ المؤمنين يدنين عليهنّ من جلابيبهن (الأحزاب(59) قالوا : الجلبابُ ثوبٌ واسعٌ تغطي به المرأةُ رأسها وصدرَها وترسلُه من أعلى إلى أسفل لتستر الوجه ونوقش هذا الاستدلالُ بأن الجلبابُ هو الملاءةُ التي تلتحفُ بها المرأةُ فوقَ ثيابها وليس على وجهها كما تذكُرُ كتُبُ اللغةِ ، وقد صحَّ عن ابن عباسٍ أنه قال في تفسير هذه الآية ( تدني الجلباب إلى وجهها ولا تضرب به ) أخرجه أبو داوود في مسائله صـ110 .
القولُ الثاني :أن جميع بدن المرأةِ عورةٌ إلاّ الوجه والكفين ، وإلي هذا ذهب جمهور العلماءِ منهم ابن عباس وعائشة وعطاء والأوزاعي وهو مذهب الحنفيةِ والمالكية وجمهور الشافعية وروايةٌ في مذهب أحمد ، راجع كشف القناع(1/266) والشرح الصغير(1/400) والمغني(6/558) واستدلوا بما يلي :
1-قوله تعالي ) و لا يبدينَ زينتَهُنّ إلاّ ما ظهر منها( على أن المراد بما ظهر منها الوجه والكفان وهما ما يظهرُ عادةً بفعل يصدرُ من المرأةِ المكلَّفةِ وهذا هو تفسير ابن عباس ومن معه من الصحابة وجرى عمل كثير من النساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال القرطبيُّ رحمه الله في تفسيره (18/93)( لما كانَ الغالبُ من الوجه والكفين ظهورهما عادةً وعبادةً وذلك في الصلاةِ والحج ، فيصلح أن يكون الاستثناءُ راجعاً إليهما ، يدلّ على ذلك ما رواه أبو داوود عن عائشة أن أسماء دخلت على رسول الله وعليها ثيابٌ رقاقٌ ، فأعرض عنها وقال"" يا أسماءُ إن المرأة إذا بلغت المحيضَ لم يصلحْ أن يرى منها إلاّ هذا ، وأشار إلى وجهه وكفيهِ ، فهذا أقوي في جانب الاحتياط ، فلا تبدي المرأةُ من زينتها إلا ما ظهر من وجهها وكفيها ) انتهي كلام الطبري رحمه الله ، وقد فصَّل توجيه تفسير الصحابةِ وكثير من المفسرين الشيخ الألباني في جلباب المرأة المسلمة (40-110) .
2-ما رواه أبو داود والبيهقيُّ من حديث عائشة أن أسماءَ دخلت على رسول الله وعليها ثيابٌ رقاقٌ ، فأعرض عنها رسول الله وقال : يا أسماءُ إنّ المرأة إذا بلغت المحيضَ لم يصلح أن تُرى منها إلا هذا وهذا ، وأشار إلى وجهه وكفَّيه ) وهو في صحيح الجامع (7847) .
3- ما روي مسلمٌ وغيرُه من حديث جابر وفيه قال ( ثم مضىـ أي رسول الله ـ حتى أتى على النساءِ فوعظهن وذكرهنّ فقال : تصدّقن … فقامت امرأةٌ من سطهِ النساءِ سفعاء الخدَّينِ ) والشاهدُ في قوله   ( سفعاء الخدّين ) فهو يدلّ على أنها كانت كاشفةً عن وجهها .
4-ما رواه الشيخان من حديث ابن عباس قال : أردفَ رسول الله الفضلَ بنَ عباسٍ يوم النحر خلفه ، وكان الفضلُ رجلاً وضيئاً ،  فوقف النبيُّ يفتيهم ، وأقبلت امرأةٌ من خثعهم وضيئةٌ ، فطفق الفضلُ ينظرُ إليها وأعجبَهُ حسنُها ) قال ابنُ حزم في المحلَّى (3/218) ( فلو كانَ الوجهُ عورةً يلزم سترها ، لما أقرَّها عليه السلامُ على كشفِه بحضرةِ الناس) وقال ابن بطالٍ( وفي الحديثِ دليلٌ على أن سترَ وجهها ليس فرضاً ) فتح الباري (11/10).
5- ما رواه الشيخانِ أن امرأةً جاءتَ إلى رسول الله فقالت : يا رسول الله ، جئتُ لأهب لك نفسي فنظر إليها رسولُ الله ، فصّعد النظر إليها وصوّبَهُ ) قال الألباني رحمه الله ( وهذا يدلّ على أنها كاشفةُ الوجهِ وأن النبيَّ نظر إليها ومن حضره ومنهم هذا الرجلِ الذي طلبها ومع هذا لم يأمرها النبيَّ بالاحتجاب ) حجابُ المرأة المسلمة صـ29.
6- أن المرأة تحتاجُ إلي البيع والشراءِ والأخذِ والعطاءِ ، ولا يمكنها ذلك عادةً إلاّ بكشف الوجه والكفين ، فيحلّ لها الكشفُ .
قلتُ : وبالنظر إلى ما سبقَ من الأدلّةِ والمناقشاتِ، يترجح قولُ جمهور العلماء بأن عورة المرأةِ أمام الرجالِ الأجانب هي الوجهُ والكفان، ولا يعني عدم وجوب تغطيتِها أنه لا يجوزُ ذلك ، بل هو مستحبٌّ ومشروعٌ لما ثبت عن نساء السلف من تغطيةِ الوجه عن الأجانب حتى أن حفصةَ بنت سيرين لما سئلت عن انتقابها أمام الرجالِ قالت : نقول (وأنْ يستعففنَ خيرٌ لهُنَّ ) ، ذكر هذا الأثر وغيرَه من الآثار عن الصحابياتِ وغيرهن، الشيخ الألباني رحمه الله في كتاب ( جلباب المرأةِ المسلمةٌ) ، وكذلك كتابه ( الردْ المفحم على من الزم المرأة أن تستر وجهَها وكفَّيها ).

× خامساً: عورة المرأة أمام النساء المسلمات :- فيه ثلاثة أقوال :-
القول الأول : ما بين السرة والركبة قياساً على الرجل ، وهو قول جمهور العلماء من المذاهب الأربعة إلا أن الحنفية قالوا : إن الركبة عورة أيضاً . راجع بدائع الصنائع /5/124) والشرع الصغير ( 1/400) وروضة الطالبين ( 7/25) والمغنى (6/562) .
ونوقش هذا القول بأن قياس عورة المرأة أمام النساء على عورة الرجل أمام الرجال قياس مع الفارق لأن حال المرأة مبني على التستر و الإحتشام ولأن عورة المرأة أمام الرجال الأجانب هي جميع البدن ما عدا الوجه والكفين .
القول الثاني : عورة المرأة أمام النساء المسلمات ما بين السرة إلى الركبة والبطن والظهر أيضاً وهو قول لأبي حنيفة رحمه الله كما في تكملة شرح فتح القدير (10/30) . ولأن هذا الزي تحتاج النساء إلى إبدائة إذا جلسن سوياً وهو السيقان والأيدي والرأس والصدر للرضاعة ونحوها ، أما ماعدا ذلك كالبطن والظهر فلا حاجة لكشفة ، ويؤيد هذا ما ورد في صحيح البخاري (5240) من حديث ابن مسعود قال: قال  رسول الله"" لا تباشر المرأة المرأة فتعنتها لزوجها كأنه ينظر إليها "" .
القول الثالث : قول ابن حزم في المحلي (10/32) أن عورة المرأة أمام المسلمات هي القُبل والدبر فقط
والراجح هو القول الثاني أن عورة المرأة أمام النساء المسلمات ما بين السرة إلى الركبة وكذلك البطن والظهر لعدم الحاجة إلى كشفها ، أما ماعدا ذلك كالساقين واليدين والرأس والصدر للرضاعة ونحوها فليس بعورة لأن ذلك مما تحتاج النساء إلى إبدائه إذا جلسن سوياً .

× سادساً :- عورَة المرأة أمام النساء الكافرات : فيه أربعة أقوال :-
القول الأول : عورة المرأة أمام الكافرات جميع الجسد إلا الوجه والكفين وإلى هذا ذهب بعض الحنفية وبعض المالكية وأصح الوجهين عند الشافعية ورواية عند الحنابلة واستدلوا بقوله تعالى ) ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو …… ( إلى قوله ) أو نسائهن (  سورة النور (31)
القول الثاني : عورة المرأة أمام النساء الكافرات هي كعورتها أمام النساء المسلمات ما بين السرة والركبة ، وإليه ذهب كثير من الحنفية وهو المشهور عند المالكية وأصح الروايتين عند الشافعية وعند الحنابلة ، وقد استدلوا بما ثبت من دخول الكافرات على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكنّ يحتجبن ولا أُمرن بحجاب ، ولأنه لم يرد نص على وجوب الحجاب عن الكافرات وفسروا قوله تعالى) أو نسائهن ( بأن المراد جملة النساء وكذلك من أدلتهم أنه إذا تزوج المسلم كتابية مع زوجه مسلمة فإن في أمر المسلمة بالاحتجاب عن الكتابية مشقة عظيمة .
القول الثالث: عورة المرأة المسلمة أمام النساء الكافرات ما بين السرة والركبة إضافة إلى البطن والظهر  وإليه ذهب أبو حنيفة .
 القول الرابع عورة المرأة أمام الكافرات هي القُبل والدُبر فقط ، وإليه ذهب ابن حزم .
والقول الراجح هو القول الثاني لما سبق من الأدلة والله أعلم

×سابعا : عورة المرأة أمام الصبيان : اتفقت أقوال أهل العلم على أنه لا يجب على المرأة أن تحجب شيئا من جسدها أمام الطفل الصغير الذي لا يميز بين العورة من غيرها ولم يبلغ حداً يحكي ما يراه واختلفت أقوالهم في من يكبره على النحو التالي :
فقال بعض العلماء : إذا كان الطفل يميز ما بين العورة وغيرها وقرب من الاحتلام فلا ينبغي لها أن تُبدي زينتها له إلا الوجه والكفين ، لأن مثله أُمر بالاستئذان في بعض الأوقات ، وانظر بدائع الصنائع(5/123)
وقال بعض العلماء:إذا بلغ الطفل حداً يحكي ما يراه فإذا كان مراهقا فحكمه حكم البالغ وإن لم يكن مراهقا وله شهوة فهو كالبالغ أيضا وإن لم يكن له شهوة فكالمحرم  يرى ما بين السرة والركبة انظر روضة الطالبين(7/22)ومغني المحتاج(3/130) وإن لم تكن له شهوة فعورة المرأة ما بين السرة والركبة . راجع المغني (6/557)
قلت : أما دليل ما اتفق عليه العلماء من عدم الاستتار من الطفل الذي لا يميز العورة من غيرها فقوله تعالى ) أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ( النور (31) .وكذلك الآية تدل على عدم الاحتجاب من الصبي الذي لا شهوة له أما الصبي الذي قارب البلوغ وله شهوة فلا ينظر إلا للوجه والكفين لأن مثلة أُمر بالاستئذان والله أعلم .

 × ثامناً : عورة الصغير : والمقصود بالصغير هنا من كان دون البلوغ فيدخل فيه الرضيع والمميز والمراهق ، وللصغير ثلاثة مراحل تختلف عورته باختلافها وهي :-
1-مرحلة ما قبل التمييز .2-مرحلة التمييز .3-مرحلة المراهقة .
(1)عورة الصغير في مرحلة ما قبل التمييز :- أختلف أهل العلم في مقدار عورته على قولين :-
القول الأول : لا عورة للصغير قبل التمييز ولا يحرم النظر إلى شيء منه ، وهذا مذهب جماهير العلماء ، ألا أن أنهم اختلفوا في تحديد هذه المرحلة أكثرهم أنها إلى سبع سنين . وهذا القول تؤيده البراءة الأصلية إذ الأصل عدم التكليف حتى يرد دليل  وهذا القول هو الراجح والله أعلم .
القول الثاني : أن عورة الصغير هي الفرجان ، فلا يجوز النظر إليها وهذا وجه للشافعية واستثنوا الأم والمرضعة فيجوز لهما النظر إلى فرجه ، ولم يصح دليل عندهم .
(2) عورة الصغير بعد التمييز إلى ما قبل المراهقة : أي من سن السابعة إلى العاشرة على الراجح :-
اختلف أهل العلم في مقدار عورته على ثلاث أقوال :-
القول الأول : لا عورة له مثل الصغير قبل التمييز ولا يحرم النظر إلى شيء منه ، وهو قول المالكية كما في منح الجليل (1/502)  .
القول الثاني: أن عورة الصغير بعد التمييز هما الفرجان ، فلا يجوز النظر إليهما وحددوه بمن له سبع سنين إلى عشر ، وإلى هذا ذهب الحنفية والحنابلة ولم يذكروا دليلاً صريحا . راجع حاشية ابن عابدين(1/407) ومنار السبيل(1/74)
والقول الثالث : أن عورة المميّز ما بين السُرة والركبة فيحرم النظر إليها وهذا مذهب الشافعية كما في المجموع(3/168) ومغني المحتاج (1/185) واستدلوا بحديث ( الفخذ عورة ) ويناقش هذا القول بأن هذا في حق المكلف البالغ ولم يقل أحدٌ من أهل العلم بوجوب تغطية فخذ الطفل الصغير .
قلت: والذي يظهر أنه لا يجب ستر شيء من بدن الصغير المميز حتى سن المراهقة وهي عشر سنوات لأنه لا دليل على وجوب سترها فإذا بلغ الصغير عشر سنوات فيجب ستر الفرجين لأنهما عورة ولأنه في هذه السن يكون مشتهي غالباً وكذلك لما رواه أحمد وأو داود وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله قال"" مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشرٍ وفرقوا بينهم في المضاجع "" والحديث صحيح كما وَرَدَ في إرواء الغليل(1/266) فقد أمر الشارع بالتفريق بينهم في المضاجع بعد بلوغ عشر سنين حتى لا تنكشف عورات بعضهم أمام بعض أما إذا ناموا مجتمعين قبل العشر فلا يضر انكشاف عوراتهم حينئذ فلا عورة لهم مثل الصغير قبل التمييز .
(3) عورة الصغير في مرحلة المراهقة حتى البلوغ : تبدأ من السنة العاشرة على الراجح حتى البلوغ بالانبات أو الإنزال بإجماع العلماء أو بلوغ الخامسة عشر على قول الجمهور
 أهل المذاهب الأربعة يرون وجوب ستر العورة وهي ما بين السرة والركبة كالبالغين لكن بينهم خلاف في بداية هذه الفترة فالمالكية يرون أنها تبدأ بعد الثانية عشر والحنفية والحنابلة يرون أنها تبدأ بعد العاشرة وهو الراجح أما الشافعية فقد تقدم أنهم يرون أن عورة الصغير المميز ما بين السرة والركبة فالمراهق من باب أولى . واستدلوا بأن عورة المراهق هي ما بين السُرة والركبة بما يلي :
أ – ما تقدم من الأدلة التي بينت أن عورة الرجل ما بين السرة والركبة .
ب- أن أمر الشارع بالتفريق بين الصغار في المضاجع لعشر سنين فيه بيان عدم جواز كشف عوراتهم   أمام بعض .  ج- أن الغلام بعد العاشرة تُخشى منه الفتنة وعليه فلذا وجب ستر عورته .وللمزيد راجع حاشية ابن عابدين(1/408) وروضة الطالين(7/24) ومنار السبيل(1/74)

× تاسعاً : عورة الصغيرةِ : والمقصود بالصغيرة هنا من كانت دون البلوغ ، فيدخل فيه الرضيعة والمميزة والمراهقة: الناظر في أقوال العلماء يجد اختلافا كبيرا في تحديد مقدار العورة للصغيرة فبعضهم قالوا : عورتها الفرجان ، وبعضهم زاد ما قارب الفرجين وبعضهم قال : ما بين السُّرة والركبة وبعضهم قال : كالبالغة ولم أجد أدلة على هذه التفصيلات  ، وإنما ظهر من أقوالهم أنهم نظروا لدرء المفسدة الحاصلة من كشف بدنها ، فمن كانت صغيرة تُشتهى تختلف عمن لا تُشتهى ، واختلفوا في تحديد سن الصغيرة التي تُشتهى ، فمنهم من قال أكثر من أربع سنوات ومنهم من قال دون سبع سنين ومنهم لم يحدد ، واتفقت المذاهب الأربعة على أنه يجب ستر عورة الصغيرة التي تُشتهى ولا يجوز النظر إليها مع خلاف بينهم في مقدار عورتها .

  مسائل أخرى في العورات :

المسألة الأولى : حدود العورة في الخلوة وهما السوءتان للرجل والمرأة :-
أ- يجوز كشف العورة في موضع الحاجة في الخلوة وذلك كحالة الاغتسال وحال البول والاستنجاء ونحو ذلك مما هو لغرض صحيح ، ولا شك أن التستر بمئزر أفضل لحديث معاوية بن حيدة الذي مر معنا في المقدمة ( قيل : إذا كان أحدنا خاليا ؟ قال : الله أحق أن يُستحيا منه من الناس )
ب- أما إذا لم يكن هناك حاجة لكشف العورة فقد اختلف العلماء في حكم ستر العورة على ثلاثة أقوال هي عدم الجواز ثم الكراهية ثم الجواز ، والراجح هو أنه يكره التجرد لغير حاجة ، ويستحب ستر العورة المغلَّظة في الخلوة لأن ذلك من الأدب مع الله تعالى الذي لا يُحجب عنه شيء ، والله أحق أن يُستحيا منه من الناس ، وهذا مذهب المالكية وغيرهم . وقد قال بحرمة التجرد لغير حاجة في الخلوة الحنفية والشافعية والحنابلة كما في حاشية بن عابدين (1/270) وشرح النووي على صحيح مسلم(4/32) والروض المربع للبهوتي (1/493)واستدلوا بحديث "" احفظ عورتك إلا من زوجتك "" وهو صحيح كما في مقدمة البحث ، وكذلك حديث "" إياكم والتعري فإنّ معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط"" وقد رواه الترمذي وقال حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وهو في ضعيف سنن الترمذي(2800) وضعيف الجامع(2194)

المسألة الثانية: هل صوت الرجل وصوت المرأة عورة؟ : لا شك أن صوت الرجل وكذلك صوت المرأة إذا كان فيه ليونة أو ميوعة أو كلام مثير للشهوة والعشق أو على وجه التكسر والتطريب والتغني وكان بغير حاجة ، أنه عورة لا يجوز سماعه لما فيه من عدم أمن الفتنة . أما إذا كان الصوت من الرجل أو من المرأة ليس فيه ما ذُكر من المفاسد فالأدلة تدل على جوازه وهي :
أ‌-       قوله تعالى ) فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض ، وقلن قولاً معروفاً ( سورة الأحزاب (32) فالآية تدل على أنه لا بأس بمكالمة المرأة الرجال الأجانب إذا لم يكن في الكلام رقة وميوعة تؤدي إلى الطمع فيها
ب‌-     قد كان الصحابة والتابعون يسألون أمهات المؤمنين عن كثير من الأحاديث والمسائل ولو كان صوت المرأة عورة مطلقاً لما فعل الصحابة ذلك .

المسألة الثالثة : حكم كشف العورة أمام أحد الزوجين :يجوز للزوجين أن ينظر أحدهما إلى عورة الأخر دون حرج ودون كراهة وهو ما دلت عليه النصوص الصحيحة الثابتة منها حديث معاوية بن حيدة المتقدم   ( احفظ عورتك إلاّ من زوجتك ) وحديث عائشة في الصحيحين قالت : ( كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناءٍ واحد من جنابةٍ )

المسألة الرابعة : حكم دخول النساء الحمامات العامّة وأماكن المساج : لما كانت مثل هذه الأماكن مظنة إطلاق البصر إلى المحرمات وانتشار العري ووقوع المنكرات، فقد ورد النهي عنها على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم . فعن أبي المُليح قال: دخل نسوة من أهل الشام على عائشة فقالت: ممّن أنتن؟ قلن: من أهل الشام ، قالت: لعلكن من الكورة التي تدخل نساؤها الحمامات ، قلن: نعم، قالت: أما أني سمعت رسول الله يقول"" ما من امرأةٍ تخلع ثيابها في غير بيتها إلا هتكت ما بينها وبين الله تعالى"" رواه أبو داود والترمذي وغيرهما وهو في صحيح الجامع(5692) وقال صلى الله عليه وسلم"" من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فلا يُدخلن حليلته الحمام "" رواه أحمد والنسائي وهو في صحيح الجامع(6506) .

المسألة الخامسة : كشف العورة للتطبّب والعلاج : متى احتاج الرجل وكذلك المرأة إلى التطبب فيجوز كشف العورة بقدر معرفة المرض والحالة فقط وهذا من الضرورة والضرورات تبيح المحظورات والضرورة تُقدر بقدرها، وقد كُنّ بعض النساء يطببن الجرحى في عهد رسول الله ، فقد روى البخاري في صحيحه من حديث الرُبيع بنت مُعوذ قالت( كنا نغزو مع رسول الله نسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة ) وقد بوب البخاري لهذا الحديث باب: يداوي الرجل المرأة والمرأة الرجل . قال ابن حجر في الفتح(10/142) ( أما حكم المسألة : فتجوز مداواة الأجانب عند الضرورة وتقدر بقدرها فيما يتعلق بالنظر والجس باليد وغير ذلك )
قلت: وقد ذكر العلماء شروطاً يجب توافرها لتطبيب الرجل الأجنبية والعكس منها :
1- توفر الحاجة الماسة وعدم توفر من يطبب المريض من أبناء جنسه .
2- أن يكون من أهل الثقة والدين والأمانة والستر .
3- أن لا تكون خلوةٌ بين الجنسين للنهي عن ذلك .
قال ابن تيمية رحمه الله( ولهذا كان النظر الذي يفضي إلى الفتنة محرماً إلا إذا كان لحاجةٍ راجحةٍ مثل نظر الخاطب والطبيب وغيرهما فإنه يباح النظر للحاجة مع عدم الشهوة ) مجموع الفتاوى (15/419)

هذا ما تيسر جمعه فيما يتعلق بأحكام العورات .


وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

الجمعة، 13 مارس 2015

تتبُّع رخص الفقهاء

الحمدُ لله رب العالمين والصلاةُ والسلامُ على خاتم الأنبياء والمرسلين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبدُه ورسولُه .. وبعدُ :

 مقدّمة :

*  فإنّ الشيطانَ لا يزالُ يسعى في إغواء العباد وإضلالِهم عن طريق الحقِّ بشتَّى الوسائل .
*ومن أبواب الشرِّ التي فتحها الشيطانُ على العباد بابُ تتبُّعِ رُخَصِ الفقهاء وزلاّتهم ، فخدعَ بذلك الكثيرين من جهلةِ المسلمين ، فانتُهكتِ المحرّماتُ وتُركتِ الواجباتُ تعلّقاً بقولِ أو رخصةٍ زائفةٍ ، فصار هؤلاءِ الجهلةُ يُحكِّمونَ أهواءَهُم في مسائل الخلافِ فيأخذون أهونَ الأقوالِ وأيَسَرَها على نفوسهم دون استنادٍ إلى دليلٍ شرعي بل تقليداً لزلّةِ عالمِ لو استبان له الدليلُ لرجع عن قوله بلا تردُّد ، فإذا ما أنكر عليهم أحدٌ تعلَّلوا بأنهم لم يأتوا بهذا من عند أنفسهم  بل هناك مَن أفتى لهم بجوازِ ذلك ، وليسُوا بمسئولين ، فقد قلَّدوهُ والعهدةُ عليه إن أصابَ أو أخطأ ، بل أنهَّم يأخذونَ برخصةِ زيدٍ من الفقهاء في مسألةِ ما ، ويهجرون أقوالهُ الثقيلة في المسائل الأخرى ، فيعمدون إلى التلفيق بين المذاهب والترقيعِ بين الأقوال ، ويحسبُون أنهم يحسنون صُنعاً ، وأشاع الشيطانُ بين هؤلاء الناس مقولةً هي ( ضعها في رأس عالم واخرج منها سالماً ) ، فإذا نزلت بأحدهم نازلةٌ ذهب إلى بعض المتساهلين في الإفتاء ، فبحث له عن رخصةٍ قال بها رجلٌ فيفتيه بها مع مخالفتها للدليل وللحقِّ الذي يعتقده ، وما أكثر هؤلاء الناس من الصنفين ، عاميُّ يذهب إلى المتساهلين الذين يفتون بالرخُّص ومُفتٍ يُرضي الناسَ ولا يفتِ بالدليل .
* فما هي مفاسدُ وأضرارُ هذا المسلك ؟ وما هي الأدلَّةُ الشرعيَّةُ في بطلانه ؟ وما هي أقوالُ العلماء في ذلك ؟ مع بيان الموقف الصحيح من الاختلاف في المسائل ؟ وماذا يجبُ على المفتي ؟ وماذا يجبُ على المستفتي ؟
مفاسدُ تتبُّعِ رخصِ الفقهاءِ :
لقد ترتب على تتبُّعِ الرخص مفاسدُ كثيرةٌ ، منها ذهابُ هيبةِ الدين ، فأصبح لعبةً بأيدي الناسِ ، ومنهَا التهاونُ بحرمانِ الشرع وحدوده .
وقد ذكر الشاطبيُّ جملةً من هذه المفاسد فقال : كالانسلاخِ من الدين بترك اتبّاع الدليل إلى اتبّاع الخلاف . وكالاستهانة بالدين ، وكتركِ ما هو معلومٌ إلى ما ليس بمعلوم ، وكانحرامِ قانونِ السياسة الشرعية بتركِ الانضباط إلى أمرٍ معروفٍ ، فتجورُ القضاةُ في أحكامها ، فيُفتي القاضي لمن يحبُّ بالرخصةِ ولمن لا بالتشديد ، فتسودُ الفوضى والمظالمُ ، وكإفضائهِ إلى القول بتلفيقِ المذاهب على وجهٍ ويخرقُ الإجماع ، الموافقات 4/147-148 .

وقال الإمامُ ابنُ الجوزي :( ومن تلبيس إبليس على الفقهاء : مخالطتُهم الأمراء والسلاطين ومداهنتهُم ، وتركُ الإنكارِ عليهم مع القدرةِ على ذلك ، وربما رخصوا لهم فيما لا رخصة لهم فيه لينالوا من ديناهم عرضاً فيقع بذلك الفسادُ لثلاثة أوجه :

الأول : الأميرُ يقول : لولا أني على صواب لأنكر عليَّ الفقيهُ ، وكيف لا أكونُ مصيباً وهو يأكل من مالي .
الثاني : العاميُّ فإنه يقول : لا بأس بهذا الأمير ولا بماله ولا بأفعاله ، فإن فلاناً الفقيه لا يبرح عنده .
الثالث : الفقيهُ فإنه يُفسدُ دينَه بذلك ) تلبيس إبليس صـ121
* وقال العلامةُ السفّارينيُّ ت (1188هـ) بعد أن بين تحريم تتبع الرخص في التقليد : ( وفيه مفاسدُ كثيرةٌ وموبقاتٌ غزيرةٌ ، وهذا بابٌ لو فُتح لأفسد الشريعة الغرّاء ، ولأباح جُلَّ المحرَّمات ، وأيُّ بابٍ أفسدُ من بابٍ يبيحُ الزنا وشربَ الخمر وغير ذلك ) .

*شبهاتٌ والردُّ عليها :

أ‌)  يحتجُّ متتبِّعُوا الرخصِ بكلامٍ حقٍ يرادُ به باطل وهو يقولون بأن الدينَ يُسرٌ والله يقول )يريدُ اللهُ بكُمُ اليُسرَ ولا يريدُ بكم العُسرَ ( البقرة 185 ، والرسول يقول " يسِّروا ولا تعُسِّروا "متفق عليه عن أنس خ 1/163 م 3/1359 ، فإذا أخذنا بأهون الأقوال كانَ فعلُنا فيه التيسيرُ ورفع الحرج .
فنقولُ لهم أن تطبيق الشريعة في كلِّ الحياة هو التيسيرُ ورفعُ الحرج ، وليس تحليل الحرام وترك الواجبات .
    قال ابنُ حزم رحمه الله في الاحكام في أصول الأحكام صـ869 ( قد علمنا أن كلَّ ما ألزم اللهُ تعالى فهو يُسرٌ بقوله تعالى )وما جعل عليكم في الدين من حرج ( الحج (78) .
    وقد ردَّ الإمامُ الشاطبي على من احتج لهذه الدعوى بقوله صلي الله عليه وسلم " بُعثتُ بالحنيفية السمحة " حديث حسن ، قائلاً " وأنت تعلمُ ما في هذا الكلامِ ، لأن الحنيفيةَ السمحة إنما أتى السماحُ فيها مقيَّداً بما هو جارٍ على أصولها ، وليس تتبُّعُ الرخص ولا اختيارُ الأقوال بالتشهِّي بثابت ) ، يعني أن يسر الشريعة مقيدٌ بأصول محددةٍ وليس تتبُّع الرخص منها ، ثم يقول رحمه الله ( ثم نقولُ : تتبعُ الرخص ميلٌ مع أهواء النفوس ، والشرعُ جاء بالنهي عن اتباع الهوى فهذا مضادٌ لذلك الأصلِ المتفق عليه ، ومضادٌ أيضاً لقوله تعالى )فإن تنازعتُم في شيءً فردُّوهُ إلى الله والرسولِ ( فلا يصحُّ أن يُردُّ إلى أهواء النفوس وإنما يرد الشريعة ) الموافقات (4/145) .

ب) شبهةٌ أخرى : يقولون : نحنُ نقلِّدُ القائلَ بالرخصة!!  فيقال لهم : إنَّ هذا العالمَ الذي قلدتموهُ قد اجتهد فأخطأ فهو مأجورٌ على اجتهاده ، أمَّا أنتمُ فما حُجَّتكُم في متابعتِه على خطئه دون سواهُ من العلماء الذين أفتوا بخلاف ما قال !!! وكذلك يقالُ لهم : ما لكم تقلِّدون هذا الفقيه في تلك الرخصةِ ولا تقلدونه فيما لم يُرخِّصْ فيه ؟ وتبحثون عن فقيه آخر يفتيكم بالرخصةِ !!! وهذا دليلٌ أنكم تتخذون التقليد ستاراً لما تهواهُ أنفسكم !! ، ثمَّ إنَّ السلف حذّروا من زلات العلماء وتقليدهم فيها : قال عمر ( ثلاثٌ يهدمن الدين : زلَّةُ عالمٍ ، وجدالُ منافقٍ بالقرآن ، وأئمةٌ مضلُّون ) الدارمي وابنُ عبد البر(1/71)  بسند صحيح في جامع بيان العلم (2/110).وقال ابنُ عباس ( ويلّ للأتباع من زلَّةِ العالم، يقولُ العالمُ الشيءَ برأيه ، فيلقى من هو أعلمُ برسول الله منه ، فيخبره ويرجع ، ويقضي الأتباعُ بما حكم ) البيهقى في المدخل وابنُ عبد البر (2/112 ) بإسناد حسن .

 حكمُ تتبُّعِ رُخصِ الفقهاءِ والتلفيقِ بين المذاهب :
اتفقَ أهلُ العلم على  تحريم  تتبُّع الرخص والتلفيقِ بين المذاهب والأقوال بلا دليل شرعيٍّ راجح ، وإفتاءَ الناسِ بها ، وهذه أقوالُهُم :

* قال سليمان التيمي (توفى عام 143 هـ) ( لو أخذتَ برخصةِ كلِّ عالمٍ اجتمع فيك الشرُّ كلُّه ) قال ابنُ عبد البرِّ معقباً   ( هذا إجماعٌ لا أعلمُ فيه خلافاً ) الجامع (2/91،92) .
* قال معمرُ بنُ راشد (ت154) ( لو أنَّ رجلاً أخذ بقول أهل المدينة في السماع – يعني الغناءَ – وإتيان النساءِ في أدبارهن ، وبقولِ أهل مكَّة في المتعةِ والصرفِ ، وبقولِ أهل الكوفة في المسكر ، كانَ أشرَّ عباد الله تعالى ) لوامع الأنوار للسفاريني (2/466) .
* قال الإمامُ الأوزاعيُ (ت 157) ( من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام )سير أعلام النبلاء (7/125) للذهبي .
* وقال الإمامُ أحمد ُ بنُ حنبل (ت241) ( لو أن رجلاً عمِلَ بقولِ أهل الكوفة في النبيذ وأهلِ المدينة في السماع  وأهلِ مكة في المتعةِ كانَ فاسقاً ) لوامع الأنوار البهية للسفاريني (2/466) وإرشاد الفحول للشوكاني صـ272.
* وقال إبراهيم بن شيبان (ت 337) ( من أراد أن يتعطَّلَ فليزم الرُّخَص ) سير أعلام النبلاء للذهبي (15/392) .
*وقال ابنُ حزم (ت 456) في بيان طبقات المختلفين ( وطبقةٌ أخرى وهم قومٌ بلغت بهم رقَّةُ الدين ، وقلَّةُ التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قولِ كلِّ قائلٍ فهم يأخذون ما كانَ رخصةً من قولِ كلِّ عالمٍ مقلدين له غيرَ طالبيين ما أوجبه النصُّ عن الله تعالى وعن رسوله صلي الله عليه وسلم ") الإحكام صـ645 . ونقل عنه الشاطبيُّ أنه حكى الإجماعَ على أنَّ تتبُّعَ رخص المذاهب بغير مستندٍ شرعيًّ فسقٌ لا يحلُّ – الموافقات (4/134) .
* وقال أبو عمرو ابنُ الصلاح (ت 643) في بيان تساهل المفتي : ( وقد يكون تساهُلُه وانحلالُه بأن تحملَهُ الأغراضُ الفاسدةُ على تتبُّع ِ الحيل المحظورةِ أو المكروهةِ ، والتمسُّكِ بالشُّبَهِ طلباً للترخيصِ على من يرومُ نفعُه أو التغليظُ على من يريدُ ضرَّه ،ومن فعل ذلك فقد هانَ عليه دينُه ) آداب المفتي صـ111 ،
*وقال سلطانُ العلماء العزُّ بنُ عبد السلام (ت 660) ( لا يجوزُ تتبُّعُ الرخص ) الفتاوى صـ122 .
* وسُئل الأمامُ النوويُّ : هل يجوزُ لمن تمذهب بمذهب أن يقلِّد مذهباً آخر فيما يكون به النفعُ وتتبعُ الرخص ؟ فأجاب : لا يجوزُ تتبُّع الرخص ، والله أعلم ) فتاوى النووي جمع تلميذه ابن العطار صـ168 .
* وقال الإمامُ ابنُ القيمّ (ت /75) ( لا يجوزُ للمفتي أن يعمل بما يشاء من الأقوال والوجوه من غير نظرٍ في الترجيح ) إعلام الموقعين (4/211) .
* وقال العلاّمةُ الحجَّاوي ( ت968) ( لا يجوز للمفتي ولا لغيره تتبُّعُ الحيل المحرَّمةٍ ولا تتبُّعُ الرخص لمن أراد نفعَهُ ، فإنَّ تتبُّعَ ذلك فسقٌ ، وحَرُمَ استفتاؤُه ) الأمتاع (4/376) .
*وقال العلاّمة السفاريني (ت 1188) ( يحرُمُ على العاميِّ الذي ليس بمجتهد تتبُّعُ الرخص في التقليد ) لوامع الأنوار (2/466) والحاصل مما تقدم أنه قد نقل الإجماع على تحريم تتبع رخص الفقهاء أربعة من العلماء هم ابن عبد البر ، وابن حزم ، وابن الصلاح ، والباجي

 الموقف عند الاختلافِ في مسألةٍ ، وماذا يجبُ على المستفتي ؟
 إذا تعددت الفتاوى في المسألة على المسلم فما هو موقفه من هذا الاختلاف ؟
لا يجوز له تتبُّع رخص الفقهاء ويجب عليه أن يتَّبع القولَ الصوابَ في المسألة فماذا يفعل ؟

الجواب : ينبغي أن يكون اختيارُه مقيّداً بمعيارٍ محدَّدٍ يُعرفُ به القولُ الراجحُ من المرجوح وهذا المعيارُ هو قوله تعالى )فإن تنازعتُم في شيءً فردُّوهُ إلى الله والرسول ( النساء 59 ، فما وافق الكتابَ والسنّةَ فهو الحقُّ وما خالفهما فهو الباطل .
1) فعلى المسلمِ الناظرِ في مسائل الخلافِ أن يختار القولَ الذي يرجِّحه الدليلُ ، قال أبو عمرو ابنُ عبد البرِّ :   (والواجبُ عند اختلاف العلماء : طلبُ الدليل من الكتابِ والسنّةِ والإجماع والقياسِ على الأصول منها وذلك لا يُعدم ، فإذا استوت الأدلّةُ وجبَ الميلُ مع الأشبه بما ذكرنا بالكتاب والسنّة ، فإذا لم يَبِنْ ذلك وجب التوقفَ  فإذا اضطُرَّ أحدٌ إلى استعمالِ شيءً من ذلك في خاصَّةِ نفسِه جاز له ما يجوزُ للعامّةِ من التقليد واستعمل قولُه صلي الله عليه وسلم " البرُّ ما اطمأنت إليه النفسُ ، والإثمُ ما حاك في الصدر ، فدع ما يريبُك إلى ما لا يريبُك " ) جامع بيان العلم (2/80-81) ، وهكذا قال الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (2/203).
2) وعلى المسلم أن يستفتي من هو مستوفٍ لشروط الإفتاء علماً وورعاً ، ولا يعمد إلى أدعياء العلم الذين تصدروا الإفتاءَ جهلاً وزورا ، أو إلى المتساهلين في الإفتاء من أهل الرخصِ والحيل فإن هؤلاء لا يجوزُ استقتاؤهُم كما مرّ معنا .
3) وعلى طالب الحقِّ أن يستعين بالله ويتضرّعُ إليه بالدعاءِ ليهديه إلى الحقِّ ، وليدعُ بدعاء النبي صلي الله عليه وسلم " اللهم ربَّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطرَ السمواتِ والأرضِ ، عالمَ الغيبِ والشهادةِ ، أنت تحكمُ بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختُلف فيه من الحقِّ بإذنك ، إنّك تهدي من تشاءُ إلى صراط مستقيم " مسلم (1/534) عن عائشة .
4) فإذا استحكم الخلافُ ولم يهتدِ المسلمُ إلى معرفةِ الحقِّ من ذلك الاختلاف ، فله أن يقلِّد من يثقُ بعلمه ودينه  ولا يكلّفُ بأكثر من هذا .
 قال الخطيبُ البغداديُّ : ( فإذا قال قائلٌ : فكيف تقول في المستفتي من العامّة إذا أفتاهُ الرجلانِ واختلفا ، فهل يجوزُ له التقليدُ ؟ قيل له : هذا على وجهين :
احدُهما : إنْ كان العاميُّ يتسعُ عقلُه ويكملُ فهمُه فعليه أن يسأل المختلفَين عن مذاهبهم وعن حُجَجِهِم فيأخذُ بأرجحها عنده ، فإن كانَ عقلُه يقصرُ عن هذا ، وفهمُه لا يكملُ له ، وسِعهُ التقليدُ لأفضلهما عنده ) الفقيه (2/204) .
5) فإن أراد أن يسلك مسلكَ الاحتياطِ والتورع ،فله أن يختار أحوط القولين فيقدِّمُ الحاظرَ على المبيح صيانةً لدينه عن الشبهات لقوله صلي الله عليه وسلم " .. فمن اتقى المشبَّهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " متفق عليه .  والله أعلم


وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين