المحاضرات

الأربعاء، 4 نوفمبر 2015

التعصّبُ المذهبيُّ وآثارُه

أوجب بعضُ الفقهاءِ تقليدَ إمامٍ من أئمةِ المذاهب ، وحرّموا اتّباعَ غير الأئمةِ الأربعة حتى لو كانَ صحابياً أو تابعياً ، وهذه دعوةٌ خطيرةٌ معناها وقفُ باب الاجتهاد . قال الباجوريُّ في حواشيه على الجوهرةِ ( ولا يجوزُ تقليدُ غيرِهم ولو كانوا من الصحابةِ ) عمدة التحقيق صـ85 لمحمد سعيد الباني .
وبعضُ الذين يوجبون تقليدَ واحدٍ من الأربعة يرون أن أقوالَهم مقدَّمةٌ على نصوص الكتابِ والسنّةِ ، ويحرِّمون على المقلِّدِ أن يأخذ من المذاهبَ الأخرى ، يقول أبو الحسن الكرخيُّ رئيسُ الحنفيةِ في العراقِ في عصرِه ( كلُّ آيةٍ تخالفُ ما عليه أصحابُنا ، فهي مؤوَّلةٌ أو منسوخةٌ ، وكلُّ حديثٍ كذلك فهو مؤوّلٌ أو  منسوخٌ ) أصول الكرخي المطبوع مع تأسيس النظر صـ84 ، ويقول الشعرانيُّ : قال بعضُ المقلّدين ( لو وجَدْتُ حديثاً في البخاري ومسلم لم يأخذ به إمامي لا اعملُ به ) قال : وذلك جهلٌ منه بالشريعةِ ، وأوّلُ من يتبرأ منه إمامُ مذهبه) الميزان 1/10 ، وجاوز أحمدُ الصاويُّ حدَّه في الغلوِّ وقال ( لا يجوزُ تقليدُ ما عدا الأربعةِ ولو وافق قولَ الصحابةِ والحديثَ الصحيحَ والآيةَ ، فالخارجُ عن المذاهب الأربعةِ ضالٌ مضلٌ ، وربما أدّاهُ ذلك للكفر، لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنّةِ من أصولِ الكفر ) حاشية الصاوي على الشرح الكبير – تحت كلامه على قوله تعالي ) ولا تقولن لشيء إني فاعلٌ ذلك غدا .
    فكم كان التعصُّبُ للأئمةِ سبباً في صدَّ كثيرٍ من الناس عن المنهج الصحيح في فهم دين الله ، وكم كانت المذهبيةُ المتعصبة دعوةً لمخالفة نصوص الكتاب والسنة ، وكم كانت كتُبُهُم مليئةً بالأحاديث الضعيفةِ والموضوعةِ لنصرةِ مذاهبهم ، وكم حَرَمت المذهبيَّةُ المتعصبةُ أصحابهَا من الاستفادةِ من المذاهب الأخرى ، وكم خلّت كتبُهم من الأدلةِ الشرعية ، وكم نشرت المذهبيَةُ المتعصبة من الخلافِ والانقسامِ والفتنِ بين المسلمين، وكم من مفاسدَ خطيرةٍ وكبيرةٍ سبَّبها التعصُّبُ المذهبيُّ  ممَّا يدلُّ على فساد هذه البدعةِ وضررها ، ووجوب نبذها والرجوعِ إلى منهج خير القرون ، صحابةِ رسول الله صلي الله عليه وسلم .

وجوبُ التمسُّكِ بالكتاب والسنَّةِ وترك التعصُّب المذهبي :
1) قال الله تعالى ) يا أيها الذين آمنوا لا تقدّموا بين يديِ اللهِ ورسولهِ واتقوا الله ، إنّ الله سميعٌ عليمٌ ( الحجرات  فالإيمان العملي هو تحكيمُ الكتابِ والسنَّةِ في كل شيءٍ ، وعدم التعرّضِ لهما برأي أو هوى أو عقل أو أيّةَ شبهةٍ أو تعصُّب لشخصٍ أو جماعةٍ أو غير ذلك ، وهذه أقوالُ بعض السلف في تفسير الآية :
* قال ابنُ عباس رضي الله عنه في تفسيرها( لا تقولوا خلافَ الكتاب والسنّةِ ) تفسير الطبري (26/74) .
* وقال مجاهدٌ ( لا تفتاتوا على رسول الله بشيءٍ حتى يقضيَهُ اللهُ على لسانهِ ) البخاري تعليقاً فتح (8/589) .
* وقال سفيانُ الثوري ( لا تقدموا بين يدي الله ورسوله بقولٍ ولا فعلِ ) تفسير الطبري (26/74) .
2) قال الله تعالى ) فإن تنازعتُم في شيءٍ فردُّوهُ إلى الله والرسول ( النساء59.
3) قال الله تعالى )فليحذرِ الذين يخالفون عن أمرهِ أن تصيبَهم فتنةٌ أو يُصيبَهُم عذابٌ أليمٌ ( النور 63.
فهذه الآياتُ وغيرها نصٌ قرآنيٌّ صريحٌ على وجوبِ طاعةِ الرسول صلي الله عليه وسلم في كُلِّ ما يأمر وينهى ، فطاعتُه صلي الله عليه وسلم أكبُر وسيلةٍ للتقارب بين المذاهب الفقهية المختلفةِ .  والأئمةُ يدعون إلى الحرص على الكتاب والسنّةِ وينهون عن تقليدهم فيما خالفهما . من المعلوم أن الأئمة رحمهُم الله ُلمِ يألوا جهداً في إتّباع السنّةِ ونشرها ، وكذلك لم يقصّروا في النهي عن تقليدهم فيما خالف سنّةَ رسولِ الله صلي الله عليه وسلم ، قال الشافعيُّ رحمه الله ( وأما أن نخالفَ حديثَ رسول الله ثابتاً عنه ، فأرجو أن لا يؤخذ علينا إن شاء الله ، وليس ذلك لأحدٍ ولكن قد يجهلُ الرجلُ السنّةَ فيكونُ له قولٌ يخالفُها لا أنه عمدَ خلافَها ، وقد يغفلُ المرءُ ويُخطىءُ في التأويل ) الرسالة 219.

    وأقوالُ الأئمةِ الأربعة كثيرةٌ في حثِّهم على اتّباع السنّةِ وتركِ أقوالهم المخالفةِ لها ، نذكر منها :

1- أبو حنيفة رحمه الله : من أقواله :
أ) ( إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي ) ابنُ عابدين في الحاشية (1/63) ، ونقل ابنُ عابدين عن شرح الهداية عن ابن الهمام ما نصُّه : إذا صحَّ الحديثُ ، وكانَ على خلافِ المذهب ، عُمل بالحديث ، ويكونُ ذلك مذهبه ، ولا يخرجُ مقلّدُهُ عن كونه حنفياً بالعمل به لما صحَّ عن أبي حنيفة ( إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي ) .
ب) ( لا يحلُّ لأحدٍ أن يأخذَ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه ) ابن عابدين في حاشيته على البحر الرائق (6/293) وابن عبد البرّ في الإنتقاء صـ145
ج) (إذا قلتُ قولاً يخالفُ كتابَ الله تعالى وخبرَ رسول الله ، فاتركوا قولي) الفلاّني في الإيقاظ صـ50.
2- مالكٌ رحمه الله  من أقواله :
أ) ( إنما أنا بشرٌ أخطئ وأصيبُ ، فانظروا في رأيي ، فكلُّ ما وافق الكتابَ والسنّةَ فخذوهُ وكلُّ ما لم يوافق الكتابِ والسنّةَ فاتركوه) ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/32)، وابن حزم في أصول الأحكام (6/149)
ب) ( ليس أحدُ بعد النبيِّ صلي الله عليه وسلم إلاّ ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبيَّ صلي الله عليه وسلم ) ابنُ عبد البر في الجامع (2/91) .
قال الألباني في صفة الصلاة (أخذها الإمامُ أحمد عن ابن عباس ومجاهدٍ ومالكٍ ) صـ49.أي هذه العبارة
ج) قال ابنُ وهبِ : سمعتُ مالكاً سُئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء ؟ فقال : ليس ذلك على الناس فقلتُ له : عندنا في ذلك سُنّةٌ ، فقال : وما هي ؟ ثم ساقَ ابنُ وهب بسنده إلى المستورد بن شداد رضي الله عنه قال : رأيتُ رسولَ الله يدلُكُ بخنصَرِه ما بين أصابع رجليه ، فقال مالك : إن هذا الحديث حسنٌ وما سمعتُ به قطُّ إلا الساعةَ ، قال ابنُ وهب : فكان يأمرُ بتخليل الأصابع ) البيهقي (1/81) .
3-  الشافعيُّ رحمه اللهُ من أقواله :
أ) ( ما من أحدٍ إلاّ وتذهبُ عليه سنَّةٌ لرسول الله صلي الله عليه وسلم ، وتعزبُ عنه ، فمهما قلتُ من قولٍ ، أو أصُّلتُ من أصلٍ فيه عن رسول الله خلافُ ما قلتُ ، فالقولُ ما قال رسولُ الله وهو قولي ) رواه الحاكم بسند متصل كما في تاريخ دمشق لابن عساكر (15/1/3) وأعلام الموقعين (2/363) .
ب)( أجمع المسلمون على أن من استبان له سنّةٌ عن رسول الله ، لم يحلْ له أن يدَعَها لقول أحدٍ .. ) ابنُ القيمّ (2/361) أعلام الموقعين – والفلانيُّ صـ68.
ج)( كلُّ ما قلتُ ، فكان عن النبي صلي الله عليه وسلم ، خلافُ قولي مما يصحُّ ، فحديثُ النبيّ صلي الله عليه وسلم أولى ، فلا تقلّدوني .. ) ابن أبي حاتم صـ93، وأبو نعيم وابن عساكر (15/9/2) بسند صحيح .
د) ( كلُّ حديثٍ عن النبيِّ فهو قولي ، وإن لم تسمعوهُ منِّي ) ابن أبي حاتم صـ93-94
4) أحمد بنُ حنبل رحمه الله من أقواله :
أ) ( لا تقلدني ، ولا تقلّد مالكاً ولا الشافعيَّ ولا الأوزاعيَّ ولا الثوريَّ ، وخذ من حيثُ أخذوا ) ابنُ القيم في الإعلام (2/302) .
ب) ( من ردَّ حدِيثَ رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فهو على شفا هلكه ) ابن الجوزي في المناقب صـ182.
هذه هي أقوال الأئمة الأربعة رحمهم الله في الأمرِ بالتمسكُ بالحديث ، والنهي عن تقليدهم دون بصيرةٍ ، وهذه طريقتهم ، فالتمسكُ بالسنّةِ والحديثِ موافقٌ لهم ، وهكذا كانَ تلامذتُهُم أيضاً ، لا يأخذون بأقوالهم كلِّها ، بل قد تركوا كثيراً منها لمَّا ظهر لهم مخالفتُها للسنّةِ ، وكتبُ الفروع كفيلةٌ ببيانِ ذلك .

نشأة المذاهب الفقهية :
قال الشوكاني رحمه الله (أن الصحابة لم يكن في زمانهم وعصرهم مذهبٌ لرجلٍ معيَّنٍ ، وإنما كانوا يرجعون في النوازل إلى الكتاب والسنَّة ، وكذلك تابعوهم يرجعون إلى الكتاب والسنّة ، فإن لم يجدوا نظروا إلى ما أجمع عليه الصحابةُ ،فإن لم يجدوا اجتهدوا واختار بعضُهُم قولَ صحابيِّ ... ثم كانَ القرنُ الثاني والثالث وكانَ فيهما أبو حنيفة ومالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ بنُ حنبل ،وكانوا على منهج مّن مضى ولم يكن في عصرهم مذهبٌ يتدارسونه ثم قال ، إن هذه المذاهب إنّما أحدثها عوامُّ المقلّدةِ لأنفسهم من دون أن يأذن بها إمامٌ من الأئمةِ المجتهدين الأربعة ... وما سمعنا عن مجتهد أنه يُسوِّغُ صنيعَ هؤلاءِ المقلّدةِ الذين خالفوا بين المسلمين ، بل أكابرُ العلماءِ بين منكرٍ لها وساكتٍ عنها سكوت تقيَّةٍ ولا سيَّما من علماءِ السوء ... ولهذا طبّقت هذه البدعةُ في جميع البلاد الإسلامية وصارت شاملةً لكل فردٍ من أفراد المسلمين ) القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد صـ17-18  وقد كانت المذاهبُ كثيرةً ولم يبق منها الآن سوى المذاهب الأربعة المشهورةِ ، ولكل مذهبٍ بناءً فقهياً له مؤلفاتُه وقواعدُه وأصولُه وعلماؤُه ومؤلفاتُه .

حبُّنا للأئمةِ الأربعة :
الأئمة أصحابُ المذاهب الفقهية من خيرةِ علماء الأمّة، بذلوا قصارى جُهدهم في تعليم المسلمين ، وبقيت أقوالُهُم في فقةِ النصوصِ مناراً يستفيدُ منها طلاّبُ الحقِّ وطلبةُ العلم ، ولكن تبقى أقوالُهمُ فقهاً للكتاب والسنّةَ  تُضمُّ إلى فقه الصحابة وعلماء التابعين وعلماء الأمّةِ بعدهم ، ونحنُ وهم مُلزمون بإتباع الكتاب والسنّةِ وتعظيمهما مقدّمٌ على تعظيم أياً كان من الناس . فمن ينتقصُهُم ويطعنُ فيهم ويذمُّهم فليس منّا ، لأنَّ السلفيّةَ هي اتّباعُ طريقةِ السلف الصالح وتعظيمُهُم ، والأئمةُ المجتهدون هم من هؤلاء السلف .

موقفُنا من كتبِ المتأخرين من فقهاءِ المذاهبِ الأربعةِ :
هذه الكتبُ فيها كثيرٌ من المسائل التي تخلوا من الأدلَّةِ الشرعيةِ وفيها بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة ، بل فيها تقديمُ أقوالِ المتأخرين على الكتاب والسنّةِ وعلى أقوال أئمةِ المذاهب أنفسِهِم ، فإذا استطاع طالبُ العلم أن يميز بين الأحاديث الضعيفة وغيرها ، واستطاع أن يأتي بالأدلةِ الشرعية على المسائل من كتب أخرى فلا مانع من الاستفادة من هذه الكتب لأن فيها ثروةً فقهيةً عظيمةً .
 بعد أن علمنا عن وجوب التمسُّك بالكتاب والسنّة ، وأن أئمتّنا دعوا إلى ذلك ونهو عن تقليدهم فيما خالف الكتاب والسنّة ، وهكذا المحقّقون من اتباعهم ، وبعد أن علمنا نشأة المذاهب الفقهية وخاصة المذاهب الأربعة ، وبعد أن بيَّنّا حبَّنا للأئمةِ وخاصة الأربعة ، فأي معنَى للتعصُّب لأقوالهم ولمذاهبهم وترك السنَّةِ وأقوال غيرهم من الأئمة ، فما هو التعصُّب المذهبيُّ ؟ وما هي أسبابُه ؟ وأمثلةٌ عليه ؟ وما هي آثارُه ومفاسدُه ؟

أما التعصُّب المذهبي فهو :-القول بأن مذهبَه هو الصوابُ وغيره على خطأ ، ويعادي ويخاصم أو يبدّع أو يضلّل مخالفه في المذهب ويفرّق كلمة المسلمين ، ويتحاكم إلى المذهب عند النزاع ، ومخالفة النصوص الصحيحة الصريحةِ تعصباً للمذهب ، والتعصّبُ المذهبيُّ لا يجوزُ لما ذكرنا من أدلةٍ وأقوالٍ للأئمة ولما سيأتي من مفاسده وآثاره .

 أسبابُ التعصّب المذهبي :
1)    إتّباعُ الهوى :قال الله تعالى )فإن لم يستجيبوا لك فاعلمْ أَنَّما يتَّبعون أَهواءَهُمْ ، ومَن أضلُّ مِمَّنِ اتَّبعَ هواهُ بغير هدىً من الله ، إنَّ الله لا يهدي القومَ الظالمين ( 50 القصص ، فإتباعُ الهوى سببٌ من أسباب رفضِ الحقِّ وأنّه مُوقعٌ في الضلال ، ومن يتعصّبُ للمذاهب الفقهية في مسألةٍ مخالفةٍ لنص الكتاب والسنّة أوأحدهما فهو متَّبعٌ لهواه ، قال ابنُ تيمية ( يجبُ عليه اتّباع النصوص ، وإن لم يفعل كانَ متّبعاً للظنِّ وما تهوى الأنفُس ، لا وكانَ من أكبر العُصاةِ لله ورسوله ... ) الفتاوى (20/213) .
2) ومن أسباب التعصب التقليدُ المطلق : إنّ تقليد الناس لإمامٍ واحدٍ في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ يسببُ التعصُّبَ الأعمى ، فالمتعصّب يتمسك بما ورثَه من مذهب إمامه أو مذهب أبيه أو أهل بلده ، حتى أصبح ذلكِ المذهبُ عادةً وحجَّةً شرعيةً يلتزمها ولا يحيدُ عنها ظنّاً منه أن ذلك هو الحقَّ ، فإذا أتاهُ البرهانُ والدليلُ تركه وتعصّب لمذهبه إمّا إتّباعاً للهوى أو نصرةً لمذهبه .
3) ومن أسباب انتشار التعصُّب المذهبي : الولاةُ والسلاطينُ الذين اعتنقوا المذاهبَ وألزموا الناس أن يعملوا بها ، واشترطوا ذلك لتوليةِ المناصبَ والتقريبِ من مجالسهم ، فأدّى ذلك إلى ترسيخِ التقليدِ والتعصُّب الأعمى في بلاد المسلمين.
4) ومن الأسباب : دعوى أنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيب وقد أنكر هذا القول كثيرٌ من العلماء منُهم أبو عُمر بنُ عبد البَرِّ في كتابه ( جامع بيان العلم وفضله ) وذكر فيه بعضَ ما خّطأ الصحابةُ ومن بعدهم فيه بعضَهم بعضاً  وإنكارهم على بعض، فليس كلُّ مجتهدٍ مصيبٌ للحقِّ ، وإنما مصيبٌ للأجر الواحد إذا أخطأ ومصيبٌ للأجرين إذا اجتهد وأصابَ الحقَّ.
5)    ومن أسباب التعصب المذهبي :ظهورُ التحاسد بين عُلماء المذاهب الذي أدّى إلى الطعن في بعضهم بعضا ، بل في المذاهب نفسِها ، لنصرة مذاهبهم ولو أدّى ذلك إلى الاستدلال بالأحاديث الضعيفة والموضوعة التي تقوّى مذهبٍ على الآخر ، وانتشرت في بطون كتب الفقه أقوالٌ غيرٌ صحيحةٍ عن الأئمةِ وذلك بسبب عدم التوثيق العلمي لها ، بل ثبت أن منهم من أنقص من الفاظ الحديثِ أو زاد فيه لنصرةِ مذهبه-راجع أمثلة في مختصر المؤهل لأبي شامة ت 665 هـ ..
6)    ومن أسباب انتشار التعصُّب المذهبي :محاربةُ أهل السنّة والتضييقُ عليهم ومنعهُمُ من المناصب الدينية على مرِّ القرون ، ومنذ ظهورِ التقليد في القرن الثالث إلى يومنا هذا (راجع مقدّمة ابن خلدون صـ434) .
7)     ومن أسباب التعصب المذهبي : الغلوُّ في تعظيم الأئمةِ ، والغلوُّ مذمومٌ في كلِّ شيءٍ ، قال الله تعالى )يا أهل الكتاب لا تغلُوا في دينكم ) النساء 171 . ، قال ابنُ كثير ( نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا باليهود والنصارى الذين بدّلوا كتاب الله واشتروا به ثمناً قليلاً ، ونبذوهُ وراء ظهورهم ، وأقبلوا على الآراءِ المختلفة ، وقلدوا الرجالَ في دين الله ، واتخذوا أحبارَهم ورهبانَهم أرباباً من دون الله ...) تفسير ابن كثير الآية (16) من سورة الحديد.

آثار ومفاسد التعصُّب المذهبي : للتعصب المذهبي آثارٌ خطيرةٌ وكثيرةٌ منها :
1- أنه من أسباب تسلط الكفّار على المسلمين ونشر الخصام والأنقسام والفتن والخلاف بين المسلمين :
قال شيخ الإسلام ابنُ تيمية ( وبلادُ المشرق من أسباب تسليط الله التَتَر عليها كثرةُ التفرُّق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها ، حتى تجد المنتسبَ إلى الشافعي يتعصَّبُ لمذهبه على مذهب أبي حنيفة حتى يخرج عن الدين  وكلُّ هذا من التفرُّقِ والاختلاف الذي نهى اللهُ ورسوُله عنه ) الفتاوى 22/254 .
والتعصُّب المذهبي نتجت عنه فتنٌ كثيرةٌ وحروبٌ بين أصحاب المذاهب منها : *قال ابنُ كثير ( إنَّ عزيز مصر الملك الأفضل بن صلاح الدين ، كانَ قد عزم قبل وفاته سنه 595هـ على إخراج الحنابلةِ من بلده وأن يكتب إلى بقية إخوتِه بإخراجهم من البلاد ) البداية والنهاية 13/20 راجعه فإنّه مهمٌ جداً .، يقول الشيخ محمد رشيد رضا ( المتعصبون للمذاهب أبَو أن يكونَ الخلافُ رحمةً ، وتشدّد كلُّ منهم في تحتيم تقليد مذهبه – وحرّم على المنتمين إليه أن يقلدوا غيرَه ، وكان من طعنِ بعضهم في بعضٍ ما هو معروفٌ في كتب التاريخ وغيرها ، حتى صار بعضُ المسلمين إذا وُجدَ في بلدٍ يتعصبُ أهلُه لمذهبٍ غير مذهبه ينظرون إليه نظرتهم إلى الأجرب) مقدمة المغني(1/18)، ثم يقول أيضاً ( وبلغني أن بَعْضَهم كسر سبَّابةَ مصلٍّ لرفعه إياها في التشهّد ، وقد بلغ من إيذاءِ بعضِ المتعصبين لبعض في طرابلس الشام أن ذهب بعض شيوخ الشافعية إلى المفتي وقال له : إقسم المساجد بيننا وبين الحنفية ، فإنَّ فلاناً من فقهائهم يَعدَّنا كأهل الذمّةِ  ) المرجع السابق (1/18).
2- ومن آثار ومفاسد التعصُّب المذهبي : مخالفةُ النصوص الصحيحةِ تعصباً للمذهب :
والله عزّ وجلَّ قال )فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنةٌ  (النور (63) ، ومن الأمثلة على ذلك :
* قال بعضُ الحنفية : لا يجوزُ رفع السبابةِ في التشهد ، مع صحّة الحديث برفع السبَّابة ،
* وقد ذكرنا لكم قول أبي الحسن الكرخي 0 كلُّ أيةٍ تخالفُ ما عليه أصحابنُا فهي مؤولةٌ أو منسوخةٌ) ،
* ومثل ذلك مخالفةُ الحنفيةِ والمالكية في عدم رفع اليدين عند الركوع وعند الاعتدال وعند القيام من التشهد الأول ،
 * ومثلُ تجويز الطلاق بالإكراه وعدم وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة عند الحنفية ،
 * ومثلُ تجويز الكلام ومنع تحية المسجد والإمام يخطب يوم الجمعة عند المالكية ،
 * ومثل قول صاحب الهداية عند الحديث عن موقف الإمام في الصلاة على الجنازة ( ويقوم الذي يصلِّي على الرجل والمرأة بحذاءَ الصدر لأنه موضع القلب وفيه نور الإيمان ، مع ذكره لحديث أنس أن من السنّةِ أن يقف الإمام عند رأس الرجل ووسط المرأة وهو رأي الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف والطحاوي ورأي جمهور العلماء راجع أحكام الجنائز صـ108 ،
* ومثلُ قولِ صاحب شرح العناية على الهداية  ( 1/225) على هامش فتح القدير ( إنَّ حضورهنّ الجماعات متروكٌ بإجماع المتأخرين … ) وهكذا أمثلة كثيرةٌ ..
3- ومن آثار التعصب المذهبي : تقديمُ آراء الرجالِ على النصوص :
     وحرمانُ الأنتفاع من نصوص الكتاب والسنّة: قال شيخ الإسلام ( وكذلك من صنّفَ في الرأي فلم يذكر إلا رأيَ متبوعهِ وأصحابه، وأعرض عن الكتاب والسنّةِ على رأي متبوعه ككثير من أتباع أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم) الفتاوى 10/367 .
4- امتلاءُ الكتب المذهبية بالأحاديث الضعيفة وبناءُ الأحكام عليها :
      وهي من أهم الأسباب المؤدية إلى الإجتهادات الخاطئة ، والتعصُّب المذهبي سببٌ لكثرة الأحاديث الضعيفة وذلك لتأييد مذهبهم ، كما أنَّهم قد يجدون حديثاً صحيحاً لدى غير مذهبهم فيحاولون الطعنَ به ، ومن أسباب وجود الأحاديث الضعيفة جهلُ كثيرٍ من الفقهاء المتأخرين بالسنّةِ .
5- تقديم أقوال المتأخرين على أقوال الأئمةِ والمتقدمين :

     وهذا ملاحظٌ في الكتب المذهبية للمتأخرين ، رغم أنهم يقولون بإغلاق باب الإجتهاد.

6- ومن آثار التعصُّب المذهبي : عدمُ الاستفادة من المذاهب الأخرى وعلماءَ الأمّةِ الآخرين :

 *وهذا يؤدّي إلى تضييقهم على أنفسهم ، ممّا سبب لهم مفاسد كثيرة منها :

 *عدم استفادتهم من جهود العلماء الأخرين من المذاهب الأخرى ،

 * الإنحباس فى مذهب واحد يسبب ضيقاً في الأفق ،

 * نشأت طائفةٌ تدعو إلى ما هبَّ ودبَّ من المذاهب جميعاً حتى مذهب الخوارج والشيعة .

7- ومن آثار التعصّب المذهبي : الأخذُ ببعض النص دون بعضِه الآخر عند المتأخرين :

     فيستدلون بحديث ، يدل جزءٌ منه على رأي مذهبهم ويدل جزءٌ منه على رأي مذهبٍ آخر ، فنبذوه وخالفوه وليس ذلك إلا للتعصب لمذهبهم ، أمثلة على ذلك :

 * احتجوا على جواز الكلام والإمام يخطب الجمعة بقوله صلي الله عليه وسلم للداخل : أصلَّيت يا فلان قبل أن تجلس ؟ قال : لا ، قال ( قم فاركع ركعتين ) ، وخالفوه فيما دلَّ عليه ، واحتج بعضُهم على أن الفاتحة لا تتعين قراءتُها في الصلاة بحديث المسيء صلاتَه ، حيث قال له النبيُّ : " اقرأ ما تيسر من القرآن " ثم خالفوا الحديث في قوله ( ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ) وقوله ( ارجع فصلْ فإنّك لم تصلْ ) فقالوا : من ترك الطمأنينة فقد صلَّ !!! مع أن الأمر بها وبالقراءات سواءٌ في الحديث .

* واحتجوا على إسقاط جلسة الاستراحة بحديث أبي حميد الساعدي  حيثُ لم يذكرها ، وخالفوه في ما دلَّ عليه نفسُه من رفع اليدين عند الركوع والرفع منه ،

* ومن أراد زيادة أمثلة فليراجع أعلام الموقعين لإبن القيم (2/294-247) وكتاب إيقاظ الهمم للفلاني .

10) ومن آثار التعصب المذهبي أيضاً :
* ترك الاشتغال بعلوم الاجتهاد ومحاربة المشتغلين به ،
* غمط فصل أهل العلم والفضل

علماءُ أنكروا التعصُّب المذهبي :
نعلمُ قطعاً أن الصحابةَ رضي الله عنهم لم يكن في زمانهم وعصرهم مذهبٌ لرجلٍ معَّينٍ يقلّد وإنما كانوا يرجعون إلي الكتاب والسنة وإلى ما أجمعوا عليه من أمور الدين ، وهكذا كان تابعوهم كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى . قال الشوكانيُّ رحمه الله ( إن هذه المذاهب إنما أحدثها عوامُّ المقلِّدةِ لأنفسهم من دون أن يأذن بها إمامٌ من الأئمة المجتهدين الأربعة  فما سمعنا عن مجتهدٍ من المجتهدين أنّهُ يُسوّغُ صنيعَ هؤلاء المقلّدةِ الذين خالفوا بين المسلمين ، بل أكابرُ العلماء بين منكرٍ لها وساكت عنها سكوت تقيةٍ لمخافةِ ضررٍ عامٍ أو خاص وكلُّ عاقلٍ يعلم أنه لو صرّح عالمٌ من العلماء المجتهدين بأن التقليدَ بدعةٌ محدثةٌ لا يجوز الاستمرارٌُ عليه ، لقامَ عليه أكثرُ أهلها وأنزلوا به الإهانةَ  والإضرارَ بماله وبدنه وعرضه، هذا إذا سلم من القتل )  القول المفيد صـ17 .  العزَّ بنُ عبد السلام رحمه الله ت 660 هـ يقول ( ومن العجب أن الفقهاء المقلدين يقفُ أحدُهم على ضَعفِ مذهب إمامه وهو مع ذلك يقلّده فيه ، ويتركُ من شهد الكتاب والسنّةُ والأقيسةُ الصحيحةُ لمذهبه … بل يتحيّل لدفع ظواهر الكتاب والسنّة ويتأولها بالتأويلات الباطلة …والبحثُ مع هؤلاءِ ضائعٌ مفضٍ إلى التقاطع والتدابر من غير فائدةٍ تجدها … فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليدُ بصرَه … ) قواعد الأحكام في الآن 2/135-136 ،  قال الحافظ الذهبي ت 748 ( فاللهُ تعالى ما أوجب عليهم تقليدَ إمامهم ، فلهم أن يأخذوا أو يتركوا ، كما قال الإمام مالك رحمه الله : كلَّ يؤخذُ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر صلي الله عليه وسلم) مقدمة ميزان الإعتدال.

فما هو منهج المسلم في موضوع التقليد والاتباع ؟
1-     عدمُ قبول القول بدون دليل .
2-     عدمُ التعصَّب لأي إنسان بعينه .
3-     أخذُ الحقِّ حيثما وجد.
ينقسمُ المسلمون إلى ثلاثة أقسام :
       أ) المجتهدون
       ب) المتبعون الذين يأخذون الرأي بعد فهم دليله
      جـ ) المقلّدون الجاهلون الذين يسألون ويأخذون من أيٍّ كانَ مادام يفتيهم على الكتاب والسنّة .  
- عدمُ التزام مذهب فقهي معيَّنٍ والأخذ من كل مجتهد .
- لا يجوزُ شرعاً تقليدُ أحدٍ في مسألة  تبين خطأهُ فيها .
- على المسلم أن يحبَّ السلف الصالح من الصحابةِ والتابعين والأئمةِ المجتهدين الأربعةِ وغيرهم .
- الأئمة المجتهدون المجدّون موجودون في كلِّ عصرِ من العصور .
- السبيلُ إلى وحدة المسلمين اتباع منهج السلف الصالح في جميع أمور الدين .

هذه بعض الآثار السيئه للتعصّب المذهبي عند المتأخرين ، فهل نحن مخطئون إذا حذّرنا منه ودعونا الناسَ إلى العودة إلى الكتاب والسنّة ، وتحكيمها في كل خلاف ، ليعود المسلمون مذهباً واحداً وصفاً واحدة كما كان عليه السلف الصالح  . ألا هل بلغت       اللهم فاشهد .
والحمد لله رب العالمين

هناك تعليق واحد: